إذا علم العبد واعتقد في قلبه أن الله قد خلقه وخلق فعله من طاعة أو معصية، أثر ذلك فيه بأمور: أولاً: أن يعتقد العبد اعتقاداً جازماً أنه أفقر ما يكون إلى الله جل وعلا؛ لأن الله هو الذي خلقه وخلق فيه الخير والشر، وهيأ له سبب الخير والشر، فالعبد فقير بذاته إلى الله جل وعلا، فقير في أمر دينه إلى الله جل وعلا، فقير في أمر دنياه إلى الله جل وعلا، فهو فقير إلى أن يهتدي إلى الله جل وعلا، وأن يهديه إلى سواء السبيل وإلى الصراط المستقيم، فقير إلى أن يهديه إلى الإسلام ثم إلى الإيمان ثم إلى الإحسان، فقير إلى أن يهديه ثم يثبت الهدى فيه ثم يزيده هدى {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17]، فقير إلى الله جل وعلا أن يعصمه من مضلات الفتن، فقير إلى الله جل وعلا في هذه الأزمنة التي كثرت فيها الفتن أن يثبته على الحق المبين أمام فتن تجعل الحليم حيران، لا يمكن لعبد أن يثبت إلا أن يثبته الله جل وعلا.
فإذا علم العبد أن الله هو الذي خلق التثبيت فيه، وخلق فيه الهداية، فإنه يستقم بذاته إلى الله جل وعلا، ويدعو الله متضرعاً متمسكناً خاضعاً ذليلاً له سبحانه حتى يثبته، ويعصمه من مضلات الفتن.
إن العبد فقير إلى الله في رزقه وفي كل شئون دنياه، ففي الحديث: (إن روح القدس نفث في روعي أنه لا تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب)، فهو فقير إلى الله حتى يستجلب الرزق الذي يكون له قوتاً وكفافاً، وإن زيد له فيتصدق به، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في السنن: (قد أفلح من أسلم، وكان رزقه كفافاً أو قوتاً، وقنعه الله بما أتاه)، فهو فقير إلى ربه أن يقنعه بما آتاه، فلا ينظر إلى غيره فيحقد عليه أو يحسده، وفقير إلى الله بأن يكون رزقه مالاً حلالاً ليس فيه سحتاً؛ حتى لا يأكل حراماً فيرفع يده إلى الله فيرد خائباً، مأزوراً غير مأجور، وفي الحديث: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً)، فهو فقير إلى الله في كل أحواله، فإذا علم العبد أن الله خلق فيه أفعاله فهو فقير إلى ربه أن يجعل كل فعله رضاً لربه جل وعلا، كما قيل: إذا أردت أن تعلم مكانتك عند الله جل وعلا فانظر أين أقامك؟ فهو الذي يقيمك سبحانه.
ثانياً: إذا علمت أن الله جل وعلا هو الذي خلق فعلك فلا يمكن أن يدخل العز إلى قلبك بعمل الطاعة، ولا يمكن أن تمن على ربك بطاعتك أبداً، {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ} [النحل:53]، فإن كنت قائماً بالليل فالله هو الذي أقامك، وأثمر في قلبك أن تقوم خاشعاً متذللاً ذاكراً إياه، وهو الذي خلق ذلك فيك فلا تمن عليه؛ لأنك تعلم أن الطاعة التي تقيمها هو الذي خلقها فيك، وأودع في قلبك أن تهتم برضا ربك جل وعلا، فلا يمكن لك أن تمن على الله بجهاد في سبيله، لأنك -ووالله الذي لا إله إلا هو- ما وضعت نفسك في ساحة الوغى، بل إن الله جل وعلا هو الذي أوضعك، وما دمت قائماً بالليل فإن الله جل وعلا هو الذي أقامك، وما جلست في درس علم تتعلم ما ينفعك وتكون من خيرة الناس كما بين النبي صلى الله عليه وسلم (خيرة الناس هم العلماء، وطلبة العلم)، فما كنت في هذا المجلس إلا بالله جل وعلا، فهو الذي وضعك، فلا تمن على ربك إن علمت أن الخير كله بيد الله {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ} [النحل:53]، فالله جل وعلا هو الذي خلق فيك هذه الطاعة فاشكر ربك ولا تمن عليه.
ثالثاً: إذا علمت بأن الله جل وعلا هو الذي خلق فيك الخير والشر فإنك ستدعوه ليل نهار وتذكره ليل نهار، متضرعاً بأن يعصمك من مضلات الفتن.
إن أهل البدعة لا يريدون أن يتركوا أهل السنة ينعمون بعقيدتهم، ويعتقدون في ربهم أنه هو الذي خلق فيهم هذه الطاعة، ووفقهم إلى هذا الخير حتى لا يمنون على الله بإسلامهم كما قال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ} [الحجرات:17]؟