الأدلة من القرآن الكريم

فأما الكتاب ففيه الآيات الباهرة التي تثبت رؤية المؤمنين لله جل وعلا.

أولها: قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23] فـ (ناضرة) من النضارة، وهو نور يشع من وجوههم بالنظر إلى وجه الله الكريم كما فسره ابن عباس، فهذه الآية صريحة ونص قاطع بأن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة، وذلك لعدة أمور: أولها: أن النظر: فعله نَظَر، وهذا الفعل إما أن يتعدى بنفسه، أو يتعدى بـ (إلى)، أو يتعدى بـ (في)، فإذا تعدى هذا الفعل بـ (إلى) يكون معناه النظر بالعين والإبصار، أي: يبصرون الله جل وعلا بأعينهم، والذي يؤكد ذلك أنه أتى بمحل النظر وهو الوجه الذي فيه العين التي ينظرون بها إلى الله جل وعلا.

وأما إذا تعدى بنفسه فمعناه: الانتظار، فأقول: أنا ناظرك في المكان الفلاني الساعة الفلانية، أي: أنا منتظرك، ودلالة ذلك من كتاب الله جل وعلا، فقد قال الله تعالى عن المنافقين أنهم يقولون عندما يلتمسون النور من المؤمنين على الصراط: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:13] أي: انتظرونا حتى نقتبس من نوركم؛ لنستهدي ونمر على الصراط.

وإذا تعدى بـ (في) يكون بمعنى التدبر والتفكر، قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} [الأعراف:185].

إذاً: إذا تعدى بـ (في) فمعناه التفكر والتدبر، أما إذا تعدى بـ (إلى) فهو نص قاطع على رؤية الله جل وعلا بالعين المجردة.

فقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]، فيه أن هذه النظرة كما قال ابن عباس وأنس: من النظر إلى وجه الله الكريم.

هذه أول آية تدل على رؤية المؤمنين لله جل وعلا.

الآية الثانية: قول الله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]، وتفسير القرآن بالقرآن أولى التفاسير، ثم تفسير القرآن بالسنة، ثم تفسير القرآن بأقوال الصحابة، والنبي صلى الله عليه وسلم فصل لنا هذه الآية بأبلغ بيان؛ وقد أمره الله جل وعلا بقوله: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44]، فتعالوا إلى بيان النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الآية: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث أنس في صحيح مسلم: (الحسنى: الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله الكريم) اللهم ارزقنا ذلك يا أرحم الراحمين.

الآية الثالثة التي تثبت ذلك: قول الله تعالى عن المؤمنين: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [المطففين:22 - 24].

فاستدل العلماء على الرؤية بقول الله تعالى: {عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ} أي: ينظرون إلى وجه الله تعالى، فـ (ينظرون) هذا الفعل، والفاعل: المؤمنون، والمفعول به محذوف، والقاعدة تقول: نفي المعمول يؤذن بالعموم، أي: أن الأبرار ينظرون، لكن لا ينظرون إلى ثمار الجنة فقط، أو إلى الحور العين، أو إلى أشجار الموز أو التفاح، فالله تعالى لم يقل ذلك، بل ترك الآية عامة، والمنضور إليه غير مصرح به، فيدل على الإطلاق، أي: أنهم ينظرون إلى الحور العين، وإلى ثمار الجنة، وإلى أنهارها، وينظرون إلى ما هو أرقى من ذلك وأعلى وأنعم ألا وهو: وجه الله الكريم.

إذاً وجه الدلالة: أن حذف المنظور إليه فيه دلالة على العموم، أي: أنهم ينظرون إلى الله جل وعلا، وينظرون إلى النعم التي أعدها الله لهم في الجنة، وينظرون إلى كل خير وبر، وإلى كل ما يمتعهم، وأشد ما يتمتعون به: النظر إلى وجه الله الكريم.

أيضاً من الآيات الدالة على النظر إلى وجه الله الكريم ورؤية المؤمنين الله بأبصارهم يوم القيامة قول الله تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا} [ق:35] أي: في الجنة {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:35]، قال أنس وعلي بن أبي طالب: لهم فيها ما يشاءون: من الحور العين، ومن اللبن والخمر، ومن العسل المصفى، ومن كل ما يشتهون، حتى الذي يحب الأموال أو الجمال أو الأغنام -وكل هذا يكون تراباً يوم القيامة- فإنه إذا تمنى ذلك على الله أنشأ الله له الغنم من الذهب، أو الجو ذأوة أو مال من الذهب، وجاء في بعض الآثار: أن المؤمن ينظر إلى أمامه في الجنة فهو لا يريد، وإنما يريد الناحية الأخرى، فيشير إليها بأصبعه فتمشي معه حيثما سار، فللمؤمن في الجنة ما يشتهي، يقول صلى الله عليه وسلم: (فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، وأعلى من ذلك المزيد، وهو: رؤية الله جل وعلا، وهذه لصاحب الحس المرهف، والقلب الواسع، الذي أحسن في عبادة الله جل وعلا فيجازى بالإحسان كما قال الله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60]، فالذي أحسن في عبادته لله جل وعلا يجازى بملء بصره من النظر إلى وجه الله الكريم، كما قال الله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]، والإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فكان جزاء وفاقاً، فمن عبد الله كأنه يراه كان جزاؤه أن يراه حقاً وحقيقة بعين اليقين في الآخرة.

ومن الأدلة أيضاً: قول الله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]، هذه الآية استدل بها الشافعي على رؤية المؤمنين لربهم جل وعلا، حيث قال: إذا حجب الله نفسه عن الكفار في السخط أو في الغضب، ففي الرضا لا بد أن يراه المؤمنون، فإن حجب نفسه عن الكافرين فإنه يتجلى للمؤمنين؛ رضاً عنهم.

الآية السادسة التي تثبت رؤية الله جل وعلا -وهي ليست بصريحة في ذلك ولكن بدلالة اللزوم- وهي قول الله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:46] فاللقي لغة يلزم منه المعاينة، فإذا التقيت بشخص فلا بد أن تعاينه إلا إذا منع من ذلك مانع كالعمى، ويوم القيامة ليس فيه عمى، وإنما يكون الأمر كما قال الله تعالى: {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22] أي: قوي؛ حتى تنظر إلى الله جل وعلا.

فهذه الأدلة من الكتاب.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015