نرد على شبهات الأشاعرة في نفيهم الاستواء بما يلي: الرد الأول: أن الله جل وعلا قد أثبت في كتابه، وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وبالإجماع، وبالفطرة، وبالعقل أنه فوق العرش كما أسلفنا في الأدلة الكثيرة السابقة، قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، وقال الله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:50]، وقال الله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18]، فأثبت الفوقية وأثبت الاستواء على العرش، فالاستواء على العرش معناه في اللغة: العلو، فإن كان بمعنى الاستيلاء فسيقوله الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرسول هو المبين عن الله، وإن لم نعرفه من الرسول صلى الله عليه وسلم فنعرفه ممن ينقل عن الرسول وهم الصحابة أو التابعون أو تابعو التابعين في القرون الخيرية الثلاثة، وهل ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] أنه بمعنى: استولى؟ لم ينقل بحديث ضعيف ولا موضوع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك، ولم يقله الصحابة والتابعون الذين نزل القرآن بلغتهم، وفهمهم لكلام الله وحصافة ذهنهم معلومة، وهم إذا خاطبهم الله فهموا كلامه، قالت أم سلمة أم المؤمنين زوج النبي صلى الله عليه وسلم: الاستواء في اللغة معلوم، بمعنى: علا واستقر، ولذلك وهم بعض العلماء فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن أم سلمة لم تأت به من عند نفسها، وهي ليلاً ونهاراً مع النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: الاستواء معلوم، يعني: علا واستقر، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، فهي أصل هذا القول وليس الإمام مالك، فقد فهمت قول الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] أنه بمعنى: علا واستقر، وأنتم لستم أفهم من رسول الله، ولا من أم سلمة، ولا من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا من أم التابعين، ولا من تابعي التابعين، ولا من القرون الخيرية بالإجماع، كما قال الشافعي: أنا وأهل الحديث على الله فوق عرشه، وعلمه في كل مكان، وكما قال مالك وشيخه ربيعة: الاستواء معلوم -أي: علا واستقر- والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، فهذا هو الأصل في اللغة، وهذا هو الظاهر من الآية، وليس هناك قرائن تصرف هذا الظاهر، بل توجد قرائن من القرآن تعضد وتثبت هذا الظاهر، وهي آيات يثبت الله فيها أن الاستواء بمعنى العلو والاستقرار، قال الله تعالى: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} [الزخرف:13]، فالاستواء بمعنى: العلو والاستقرار، وقال الله تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود:44]، واستوت أي: استقرت على الجبل، وهو الجودي، فهذه قرائن من القرآن تثبت لنا أن الاستواء معناه العلو والاستقرار، أثبت لنا ذلك أولاً: المعنى الظاهر وعضد الظاهر قرائن أخرى من القرآن تثبت هذا المعنى، وكذلك الصحابة الذين هم أفهم الناس عن الله وعن رسول الله، فعندهم أن الاستواء بمعنى: العلو والاستقرار، فباللغة وبالشرع وبالصحابة الكرام بفهمهم وحصافة ذهنهم علمنا أن الاستواء بمعنى: العلو والاستقرار، لا بمعنى الاستيلاء، هذا أولاً.
ثانياً: نتنزل ونقول: إن الاستواء بمعنى الاستيلاء، فيلزم من هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك الأمة حائرة، وعصى ربه ولم يبين كما أمره، قال الله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44]، فلم يبين للناس أن الاستواء بمعنى الاستيلاء، وترك أمته حائرة لا تفقه عن الله، ولا تعقل عن الله، ولا تتعبد بآثار أسمائه الحسنى وصفاته العلى، وهذا اللازم الأول الباطل: اتهام النبي صلى الله عليه وسلم بعدم التبيين عن الله جل وعلا؛ لأنه لو كان معنى الاستواء: الاستيلاء لقاله النبي صلى الله عليه وسلم، ولبينه، وما دام لم يبينه النبي صلى الله عليه وسلم فكفاكم ذلك، فلا تتكلموا فيه؛ لأنكم لستم بأفقه من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله جل وعلا.
أذكر: أن أعرابياً مر فسمع رجلاً يقرأ قوله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:1 - 2]، زرتم المقابر ليس معناه: الإقامة، بل يعني: أنك مت وقبرت، وهذه زيارة، فقال: والله إن الزائر ليس بمقيم! أعرابي فهم هذا بفطرته، وقال: والله! إن الزائر ليس بمقيم، ويعني كلامه: أنه ما دام أنه زائر فلا يمكن أن يقيم، وطالما هو زائر في القبر فلا بد أن يرجع، ولا يمكن أن يقيم، إذاً: سيخرج ويبعث، واستدل على البعث بهذا.
وأيضاً: أعرابي سمع رجلاً يقرأ قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38]، إلى أن قال: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:74]، قال: أعد علي هذه القراءة، فقرأها إلى أن قال: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:74]، فقال الأعرابي: لو غفر ورحم ما قطع، قال: قل: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة:38]؛ فلأنه عز وحكم فقطع، بعزة وبقوة، فهم بالسليقة، ولو كان الفهم أن الاستواء: القوة والاستيلاء، لأظهروا لنا ذلك، ولم يخفوه علينا وقد أمروا بالتبيين.
اللازم الثاني: إذا تنزلنا وقلنا: الاستواء بمعنى: الاستيلاء، فهو باطل، وهو بمعنى: أن الله أخذ منه العرش، وبعد ما سلب منه العرش تقوى ثم غلب الذي غلبه وأخذ منه العرش، فهل هذا رب؟! وهل يستحق أن يكون رباً الذي يضعف في لحظات، ثم يستولي على ملكه، ثم بعد ذلك يهزم الغالب، ويأتي ويأخذ ملكه؟! فمن لازم قولكم الباطل اتهام الله جل وعلا بصفات النقص.
اللازم الثالث الباطل: أنهم قالوا: أنتم تقولون: نحن نقول: إن استولى أي: غلب، يلزم منه أنه أخذ الملك ممن غلبه، ونحن لا نقصد ذلك، بل نقصد أن استولى بمعنى: مطلق التمليك، ومطلق الملك لله، نقول لهم: أيضاً هذا لازم باطل؛ لأن الأرض ملك لله، والجبال ملك لله، والبحر ملك لله، والسماء ملك لله، ولم يخص الله جل وعلا هذه الصفة بالعرش، فلم يقل: الرحمن على الجبل استوى؛ لأنه ملكه، وإذا قلتم بمطلق التمليك، فالكون كله ملك لله، فبدل أن يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، فليقل: الرحمن على الجبل استوى، أو الرحمن على الأرض استوى، أو الرحمن على البحر استوى فخص الاستواء بالعرش؛ لأن هذا خاص به، وصفة من صفاته الفعلية، وليست بمعنى الملك.
إذاً: الرد عليهم بأن أصل الشرع، وظاهر اللفظ واللغة، وقول الصحابة والإجماع على أن الاستواء بمعنى: العلو والاستقرار لا بمعنى الاستيلاء، وإذا قلنا تنزلاً معكم: الاستواء بمعنى: الاستيلاء يلزمنا لوازم باطلة، ولازم الباطل باطل، وفيه اتهام النبي صلى الله عليه وسلم بالتقصير في التبيين، واتهام الله جل وعلا بصفات النقص.
الثالث: إذا قلتم بمطلق التمليك وأن الاستيلاء هذا استيلاء على ملكه الذي غاب عنه، فنقول: هو مالك للكون كله، ولم يخص صفة فعله هذه بالعرش إلا أن تكون مزية للعرش، وأنها حكمة من عند الله جل وعلا، وصفة من صفات الفعل إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، هذه أدلتنا على أهل التحريف، ونرد على بدعهم بهذه الأدلة التي استدلوا بها.