قال بعضهم: لا يجوز أن تقول: لفظي بالقرآن مخلوق؛ لأن عين كلام الله هو عين كلام المخلوق، والذي قال هذا هم الاتحادية والحلولية، فهم يقولون: كل كلام في الأرض كلامه، فالسب والشتم وقبيح الكلام ينسب إليه جل وعلا تعالى عما يقولون علواً كبيراً! قال قائلهم: وكل كلام في الأرض كلامه سواء علينا نثره أو نظامه والذي قال هذا هو ابن عربي، وهذا الرجل من أكفر أهل الأرض، ومع ذلك يعظمونه، وهو الذي يقول بالاتحاد والحلول.
واختلف السلف في قوله: لفظي بالقرآن مخلوق، فالإمام أحمد وعلي بن المديني وغيرهما يقولون: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو كافر، أما البخاري ومحمد بن إسحاق بن خزيمة والبيهقي ومسلم فإنهم يقولون بجواز القول بأن لفظي بالقرآن مخلوق، ونقول: هذه كلمة مجملة.
ونحن أصلنا في اعتقادنا أن الكلام المجمل الذي ينسب إلى الله لا ننفيه ولا نثبته، لكن نقول للقائل: ما تقصد؟ فإن كان القصد صحيحاً فالكلام صحيح، وإن كان القصد باطلاً فهو باطل.
إذاً: هذه لفظة مجملة فنسأله، فإن قال: قصدي القرآن فهو كافر؛ لأنه يقصد أن القرآن مخلوق، وإن قال: قصدي صوتي ونبراتي وفعلي وكسبي وتلاوتي فهذا حق على حقيقته، وعندنا أدلة على ذلك تثبت أن كل هذه الأفعال مخلوقة.
فالقرآن كتب وسطر في اللوح المحفوظ، وهذا التسطير كان مخلوقاً، قال تعالى: {وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ} [الطور:2 - 3] والرق مخلوق.
وفي الصحيحين: (أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب.
قال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة) فالقلم نفسه الذي كتب القرآن مخلوق، كذلك التلاوة تكون باللسان واللسان مخلوق، قال تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} [العنكبوت:45] والتلاوة هذه اكتساب وأفعال مخلوقة، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يتلوه) بفعله وكسبه وإرادته، فهذه أفعال مخلوقة، فالأفعال الاختيارية للعبد مخلوقة، فإذا قال: أقول: لفظي بالقرآن مخلوق وأقصد فعلي وكسبي باختياري فهذا صحيح، أما الكلام نفسه: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3]، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، فهذا ليس مخلوقاً، وإنما هو كلام الله جل وعلا.
أيضاً القلوب تعي القرآن والصدور تحفظه، وهذه الصدور مخلوقة، وكذلك القلوب، قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ} [الشعراء:192 - 194] فهذا القلب مخلوق.
إذاً: الجملة المجملة لا ننفيها ولا نثبتها، ولكن نسأل ماذا تقصد؟ فإن كان حقاً أثبتنا بلفظه الشرعي، وإن كان باطلاً رددناه.
ومن الأمثلة على الكلام المجمل كذلك: السؤال عن الجهة، نقول: كلمة الجهة مجملة، فلا ننفيها ولا نثبتها، ولكن نقول: إن قصدت بالجهة العلو فهذا حق، وإن قصدت بالجهة كل مكان فهذا باطل، وهكذا في كل شيء آخر من صفات الله تعالى نقول: هذا مجمل لا نثبت ولا ننفي حتى لا نتقول على الله بغير علم، فمثلاً: هل يمكن للإنسان أن يصف الله بالإذن أو ينفيها؟ لا؛ لأنه لم يرد دليل على ذلك، فلعل لله أذناً لا نعلمها، قال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36].