قال: [وعن سعيد بن المسيب أن عمر قال: (يا نبي الله! أرأيت ما نعمل نحن الآن لأمر قد فرغ منه أو لأمر نستقبله استقبالاً؟)] هذا كلام جميل جداً في القدر.
أي: الأعمال التي عملناها يا رسول الله أهي أعمال قد كتبت علينا وفرغ الأمر منها أو هي مستقبلية؟ قال: [(فقال النبي عليه الصلاة والسلام: بل لأمر قد فرغ منه، فقال عمر: فعلام العمل إذاً؟)] أي: لماذا نعمل؟ لأن هذا العمل قد كتبه الله عز وجل قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، كما في رواية مسلم، ألسنا نريد مقاتلة المشركين؟ فالله عز وجل إما أن يكون قد كتب النصر أو الهزيمة، من منا يعلم قبل بدء المعركة ما كتب لنا من نصر أو هزيمة؟ لابد من خوض المعركة.
فإذا كتب لنا النصر علمنا أن الله تعالى كان قد كتب لنا النصر، ولذلك سخرنا وهدانا لهذا النصر أخذاً بالأسباب، هل يستطيع إنسان أن يقول: أنا جائع ولا داعي للأكل، لأن الله تعالى لو كتب لي الشبع فإنه قادر على أن يشبعني دون أن أطعم أو أشرب، وكذلك من يريد ولداً يقول: إن الله تعالى قادر على أن يرزقني الولد من غير أن أتزوج؟ هذا لا يمكن أن يقوله إنسان عاقل.
لابد من استعمال السبب، وترك السبب قدح في توحيد الله عز وجل، كما أن الاعتماد على السبب شرك بالله عز وجل.
ومعنى (فرغ منه) أي: علمه الله عز وجل، ولما علمه كتبه في اللوح المحفوظ وسطره على العباد، لكن هل العباد يعلمون هذه القضية؟ هل العباد علموا ما كتب لهم وقدر؟ هل هم يعلمون ذلك إلا بعد أن يقع؟ فالعباد لا يعلمون ذلك.
فلذلك لابد من اتخاذ الأسباب، وبعد اتخاذ الأسباب يعلمون ما كان قد قدر لهم، لأن ربنا كتب كل شيء، فهو عنده في كتاب تحت العرش، وأنت ما أدراك أن هذا المكتوب خير أم شر، لك أو عليك؟ لابد من العمل حتى تدرك بعد ذلك ما كان قد قدر لك من الخير أو الشر.
كان أحدهم ممن لا يؤمن بالقدر وعنده فلسفات جدلية على القدر، وكان في إحدى زياراتي له ضرب ابنه ضرباً مبرحاً من أجل أن يجتهد في المذاكرة، والامتحان كان على الأبواب، مع أنه قبل ساعات طويلة كان يقول: إن كل شيء قدره الله عز وجل، فلم العمل؟ نفس السؤال الذي عرضه عمر على النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن عمر آمن بكلام النبي صلى الله عليه وسلم فوراً، ولا يمنع أن يكون عمر سأل لأجل أن يتعلم الجاهل، فهذا لا يخفى عليكم.
فهذه العشرون عاماً أجرى الله تبارك وتعالى فيها أحكام الدنيا إلى قيام الساعة تأصيلاً أو فروعاً أو سياسة، ولذلك أحداث الدنيا إلى قيام الساعة لابد أن يكون لها أصلا في كتاب الله أو في سنة رسوله عليه الصلاة والسلام أو في إجماع الأمة أو بالسند الصحيح، وهي مصادر الإسلام.
فقلت لهذا المخبول بعد أن ضرب ابنه: لم تضربه هذا الضرب كله؟ قال: الامتحان على الأبواب، وهو لا يريد أن يذاكر، قلت: ولم يذاكر؟ قال: حتى يوفق في الامتحان وينجح، قلت: إذا كان الله قدر له النجاح سينجح وإن لم يذاكر ويدخل الامتحان، فنظر وبحلق في عيني، قلت: هذه مثل تلك التي كنت تناقش فيها منذ ساعات؛ لأنه لم يكن يعمل، وكان يظن أن العمل شرك بالله عز وجل، وهذا هو البرماوي وأنتم تعرفونه، ويعتقد أن هذا من باب التوكل على الله.
قلت: وما الذي يمنع ابنك أن يتوكل على الله أعظم من توكلك؛ بأن يجتهد في المذاكرة قبل دخول الامتحان، وعلى اعتقادي أن الله تبارك وتعالى لو أراد أن يجعله الأول على الجمهورية وعلى العالم كله لفعل ذلك؛ لأن كل شيء بيده سبحانه وتعالى، لكن لما كان كل شيء بيده تبارك وتعالى أمرنا باتخاذ الأسباب.
وقلت له بعد ذلك: يلعب ويمرح ويلهو ويأخذ الذي قدره الله عز وجل له، وعلمت بعد أيام من هذا اللقاء أنه رجع عما كان عليه؛ لأن مناقشته في قدرة الله عز وجل وإرادته في أمر قد مسه هو شخصياً، لم يتلقاه عن شيخه المضل، وإنما تلقاه عن ولده الذي ربما يضيع لو ترك المذاكرة، والمذاكرة سبب من أسباب الله عز وجل.
قال: [(قال عمر ففيم العمل؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: لا ينال إلا بعمل -يعني: هذا المفروغ المقدر لا ينال إلا بعمل- فقال عمر: إذاً نجتهد)]، إذا كان المقدر والمكتوب هذا لا ينال إلا بعمل، إذاً: لابد أن نجتهد ونعمل.
الله عز وجل كتب أن العبد لابد أن يعمل فعمل العبد هو كذلك مكتوب، والله تبارك وتعالى كتب أن إبراهيم سينجح وكتب أن إبراهيم سيذاكر، فالله كتب العمل وكتب نتيجته، فإذا كان هذا وذاك مكتوبان فلابد من الإتيان بهما.
قال: [وقال عمران بن حصين: (قال رجل: يا رسول الله! أعُلِمَ أهل الجنة من أهل النار؟ قال: نعم، قال: ففيم يعمل العامل)]، فالله عز وجل يعلم أهل الجنة من أهل النار، وما أدراك أنك من أهل الجنة أو من أهل النار؟ والله تعالى خلق الجنة وخلق لها أهلاً، وخلق