وعن الوليد بن هشام قال عن أبيه: بلغ هشام بن عبد الملك أن رجلاً يقول بالقدر وقد أغوى خلقاً كثيراً، فبعث إليه هشام فأحضره.
فقوله: وقد أغوى خلقاً كثيراً مع أنه قدري ومخالف لأصول أهل السنة والجماعة، إلا أنه ما من ساقطة في الأرض إلا ولها لاقطة.
فقال: ما هذا الذي بلغني عنك؟ قال: وما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: تقول: إن الله لم يقدر على خلق الشر.
قال: بذلك أقول، فأحضر من شئت يحاجني فيه.
قال له: أنا أقول ربنا لم يخلق الشر، وإذا كنت لا تصدقني أدخل علي من يناظرني في المسألة هذه.
فبعث هشام بن عبد الملك إلى الأوزاعي فأحضره لمناظرته.
الإمام الأوزاعي كان صاحب مذهب، عمل بمذهبه في الشام مائتي سنة، لم يكن هناك أحد يسمع عن أبي حنيفة ولا عن مالك ولا عن أحمد بن حنبل ولا عن الشافعي، كان أهل الشام يقولون في فتاويهم: قال الأوزاعي كذا، إلى أن ظهرت وانتشرت هذه المذاهب الأربعة فغطت على بقية المذاهب ومنها مذهب الأوزاعي.
الأوزاعي كان آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، ينهى أمة ويأمر أمة، وقد صنفت في ترجمته رسالة لطيفة اسمها: (أحسن المساعي في بيان فضائل ومناقب الأوزاعي) لما تقرأها تحتقر نفسك، بل تحتقر علماء الأمة في هذا الزمان، كان جبلاً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كان لا يهمه الحجاج ولا غير الحجاج، الحجاج الذي لم يكن أحد يدخل عليه لا من الصحابة ولا من غيرهم إلا ويخاف على نفسه، أما الأوزاعي فما ضره ذلك، دخل عليه فوعظه وأمره ونهاه ثم انطلق وقال: لا يضرني ملكك ولا جبروتك، لأن الملك وصاحب الجبروت الأعظم في السماء قادر عليك.
الأوزاعي جاء من أجل أن يناظر هذا القدري الذي يقول: إن الله لم يخلق الشر، فقال له الأوزاعي: إن شئت سألتك عن واحدة، وإن شئت سألتك عن ثلاث، وإن شئت عن أربع، أخبرني عن الله: هل تعلم أنه قضى على ما نهى؟ قال: ليس عندي في هذا شيء.
أي: أنا لم أفهم شيئاً.
فقلت: يا أمير المؤمنين! هذه واحدة.
أي: الأوزاعي يقول لـ هشام بن عبد الملك: هذه واحدة لا يعرف كيف يرد عليها.
ثم قلت له: أخبرني هل تعلم أن الله حال دون ما أمر.
يعني: هل الله منع دون ما أمر؟ فقال المبتدع: هذه أشد من الأولى.
فقلت: يا أمير المؤمنين! هذه اثنتان.
أي: سجل عندك.
ثم قلت له: هل تعلم أن الله أعان على ما حرم؟ يعني: ساعد ويسر على ما حرم؟ قال: هذه أشد من الأولى والثانية.
فقلت: يا أمير المؤمنين! هذه قد حل بها ضرب عنقه.
ولم يأت بالمسألة الرابعة.
فأمر به هشام فضربت عنقه.
وهذا لما كانت للإسلام قوة وسطوة، وأيام ما كان لهم اهتمام بأمر الدين، هذه الأسئلة الثلاثة لما أنكرها هذا المبتدع حلت رقبته فقتله هشام بن عبد الملك، وهشام لا يفهم الكلام هذا، لكن المبتدع يفهم ولا يريد أن يجيب، لأنه إذا أجاب هزم ويلزمه التوبة.
ثم قال هشام بن عبد الملك للأوزاعي: يا أبا عمرو! فسر لنا هذه المسائل.
يعني: بين لنا الكلام هذا.
قال: نعم.
يا أمير المؤمنين! سألته أولاً: هل يعلم أن الله قضى على ما نهى.
السؤال الأول وهو أن الله تعالى نهى آدم عن الأكل من الشجرة ثم قضى عليه بأكلها، وهذا ثابت في القرآن والسنة، فالله تعالى قضى عليه وقدر أن يأكل منها، ولو أن المبتدع أجاب عن هذا السؤال للزمه أن يقول: إن الله قضى على ما نهى، فالله لا يقضي على شيء إلا إذا علمه، وهذا الشر الذي وقع من آدم بعلم الله وبقدره، وأن الله هو الذي أذن فيه بقضائه وقدره.
قال: وسألته ثانياً: هل يعلم أن الله حال دون ما أمر؟ -أي: منع دون ما أمر- أمر إبليس بالسجود لآدم ثم حال بينه وبين السجود.
لما إبليس أمر بالسجود امتنع، فامتناع إبليس مخلوق، والذي خلقه هو الله عز وجل، خلقه بعلم سابق، فالامتناع عن السجود لآدم ومخالفة الأمر شر، والذي خلقه هو الله، فالله الذي خلق الخير والشر، لكن المبتدع لما أدرك هذه الحقيقة اعتذر عن الجواب، فقال: لا يعرف شيئاً.
هذه مسألة صعبة جداً.
قال: وسألته ثالثاً: هل يعلم أن الله أعان على ما حرم أم لا؟ فقال: هذه أشد من الأولى والثانية.
والمعنى: أن الله حرم الميتة والدم ولحم الخنزير ثم أعاننا على أكله في وقت الاضطرار إليه، فالله تعالى أعان على ما حرم مع أنه شر ولكنه رخص في مواطن وظروف بعينها، والذي رخص هو الله عز وجل.
قال هشام: والرابعة ما هي يا أبا عمرو؟ فقال: كنت سأقول له: مشيئتك مع الله أم دون الله؟ فإن قال: مع الله فقد اتخذ مع الله شريكاً.
يعني: أنه جعل مشيئته مع مشيئ