مشيئة الله تبارك وتعالى مشيئة شرعية دينية مبناها على المحبة والرضا، وهي أوامره التي أمر بها وأوامر الرسول عليه الصلاة والسلام التي أمر بها كذلك.
أما أوامره الكونية وهي الوقوع في مناهيه ومعاصيه فهي وقعت بإرادة الله عز وجل؛ لأنه لا يكون في الكون إلا ما أراد وقدر على العباد، وليس بلازم أنه أحب ذلك، فالزنا والسرقة وشرب الخمر وسائر المعاصي تقع في الكون بإرادة الله وإذنه، ليس معنى ذلك أن الله أحبها، ولا أنه يرضى عنها، وفي المقابل لا يزني الزاني رغماً عن الله ولكن بإذن من الله عز وجل، فالله أذن أن تقع هذه المعصية في كونه مع أنه لا يحبها، فهناك إرادة شرعية دينية مبناها على المحبة والرضا، أي: محبة الله ومحبة الرسول، ورضا الله ورضا الرسول.
وإرادة كونية أي: أن هذه الأفعال والمعاصي تقع في الكون، فهذه إرادة كونية قدرية، أي: ما وقعت إلا بقدر من الله عز وجل وكتابة من الله عز وجل وعلم من الله عز وجل الأزلي السابق بأن عبده فلاناً سيفعل كيت وكيت من معاصيه في يوم كذا وكذا وفي مكان كذا وكذا، فلما علم الله عز وجل منه ذلك كتبه وقدره عليه.
والأمر عندنا أن الأشياء إما خالقة وإما مخلوقة، فلما كان مستقراً عند العامة والخاصة أنه لا خالق إلا الله عز وجل تبين أن ما دون الله عز وجل مخلوق، وأسماء الله عز وجل وصفاته ليست مخلوقة، لأن الله تبارك وتعالى ليس بمخلوق وإنما هو الخالق الوحيد، فصفاته لازمة لذاته، أي: أنها ليست مخلوقة، فلا أولية لها كما أنها لا آخرية لها، لأن الله تعالى هو الأول وهو اسم من أسمائه ليس قبله أحد، وهو الآخر ليس أحد بعده، وهو الظاهر وهو الباطن، فأسماء الله عز وجل وصفاته ليست مخلوقة، لأن الله تبارك وتعالى المتصف بهذه الصفات ليس مخلوقاً، بل هو الخالق سبحانه وتعالى.
فتبين أن ما دون الله عز وجل وما دون أسمائه وصفاته مخلوق، فالعبد مخلوق، وما ينتج عن هذا العبد مخلوق، مشيك، كلامك، حركاتك، سكناتك، أفعالك، تصرفاتك، خطواتك كل هذا الله عز وجل أذن فيه وخلقه وشاءه على هاتين المشيئتين دينية أو كونية قدرية، وكتب ذلك لأن الله علم أنك ستفعل ذلك، وأن هذا الفعل لا يكون إلا بإرادته ومشيئة، لأن الله تعالى يقول: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30]، فأثبت للعبد مشيئة وأثبت لنفسه سبحانه مشيئة، ولكن العبد لا يشاء شيئاً إلا بعد مشيئة الله له أن يشأ ذلك، فمشيئة العبد مندرجة تحت مشيئة الله عز وجل، فليس لعبد أن يشأ شيئاً لم يشأه الله عز وجل، وليس لعبد أن يريد شيئاً كما قال تعالى: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [الأنفال:67] فأثبت العبد إرادة ولكن الله عز وجل له إرادة أخرى، فإرادة الله عز وجل فوق إرادة العبد، ومشيئة الله عز وجل فوق مشيئة العبد، فليس لعبد أن يريد شيئاً إلا إذا أراده الله إما إرادة شرعية وإما إرادة كونية، وليس للعبد أن يشأ شيئاً إلا أن يشاء الله إما مشيئة شرعية وإما مشيئة كونية قدرية.
والنبي عليه الصلاة والسلام كما ثبت عنه قال: (إن الله تعالى خالق كل صانع وصنعته) يعني: أنت مخلوق لله عز وجل لأن الله هو الذي خلقك، وما ينجم عنك من حركة وسكنة ومشي وسكون وتكلم وسكوت وغير ذلك، هذا أيضاً مخلوق فيك لله عز وجل.
بمعنى: أن الله تعالى هو الذي خلق فيك الكلام ولو شاء لأخرسك، خلق فيك المشي ولو شاء لأقعدك، خلق فيك النظر ولو شاء لأعماك، فكلما تفعله أنت فإن الله تعالى خلقه وأذن فيه وشاءه وكتبه وعلمه، وهذه كلها مراتب القدر، ولذلك هذا تفسير وتأويل قول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله خالق كل صانع) أي: كل مخلوق.
(وصنعته) أي: وأفعاله وأقواله وحركاته وسكناته، فأنت وما تفعل مخلوق لله عز وجل.
هذا الكلام فيه الرد على القدرية الذين يقولون: إن الله تعالى لا يخلق الشر وإنما يخلق الخير.
وبعضهم قال: إن الله تعالى جبر العبد - وهؤلاء هم الجبرية - على الأفعال فكيف يحاسبهم؟ أي: إذا كنت مجبوراً على إتيان الشر فكيف يعاقبك الله عز وجل وهو الذي جبرك وقهرك على أن تفعل الشر، وكيف يحاسبك حينئذ؟ فيلزمهم لزوماً أكيداً بسبب هذه المقالة أن يقولوا: إن الله تعالى ظالم، والظلم صفة لا تليق بالله عز وجل إنما تليق بالمخلوقين.
وبعضهم قال: ليس لله عز وجل في أفعال خلقه مشيئة، فأفعال العبد هو الذي شاءها وأرادها وفعلها وليس لله تبارك وتعالى فيها دخل.
بمعنى: أن العبد هو الذي يخلق فعل نفسه.
وهؤلاء سلبوا الله عز وجل صفة هي من أعظم صفاته وهي صفة الربوبية المتعلقة بالخلق، فيجعلون مع الله إلهاً آخر؛ لأن المعلوم أن الإله هو الذي يخلق، وأن أفعال العبد مخلوقة، فإما أن يخلقها العبد لنفسه، وإما أن يخلقها الله تعالى في عبده.
فإذا قالوا: إن الله لم يخلقها في العبد وإن العبد هو الذي خلقها في نفسه فيكون العبد حينئذ خالقاً، وهذا سلب لصفة الربوبية عن الله عز وجل، فكلاهما شر مستطير.