قال: [عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدى هدى محمد، وشر الأمور محدثاتها، فاتبعوا ولا تبتدعوا، فإن الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره].
والشاهد هنا في قوله: (فإن الشقي من شقي في بطن أمه) أي: أن الله تبارك وتعالى كتبه من الأشقياء قبل أن يولد، فمن قال: إن هذا ظلم؛ كفر؛ لأنه يقصد أن الذي ظلمه هو الله، والله تبارك وتعالى لا يظلم الناس شيئاً، فما بال الله عز وجل كتبه وهو في بطن أمه من الأشقياء؟ وأنتم تعلمون حديث عبد الله بن مسعود: (ويؤمر الملك بكتب أربع: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد) وهذا يكون بعد تكوين الجنين بأربعين يوماً، وقيل: بمائة وعشرين يوماً، والراجح: أن الروح تنفخ بعد الأربعين لا بعد المائة والعشرين، والمسألة محل خلاف بين أهل العلم.
والذي يترجح لدي: أنها تنفخ بعد الأربعين؛ ولذلك لا يجوز الإجهاض بعد الأربعين حتى وإن ماتت المرأة، أما إذا كانت هناك علة وعذر شرعي للإجهاض قبل الأربعين فبها ونعمت، وإن لم يكن هناك عذر حرم الإجهاض أيضاً.
قال: (والشقي من شقي في بطن أمه) أي: يختار طريق الشقاء فيكتبه الله عليه حينئذ؛ لأن الله تبارك وتعالى علم ما كان وما سيكون إلى قيام الساعة، وما بعد ذلك وما قبل ذلك، فعلم الله عز وجل أن هذا العبد قبل أن يكون جنيناً حينما خلقه من ظهر أبيه آدم، أنه سيختار طريق الشقاء رغم إرسال الله عز وجل للرسل، وإنزاله الكتب، وتسخيره العقل السليم لهذا الرجل الذي يميز به بين الحق والباطل، ومع هذا يختار هذا الشقي طريق الشقاء.
فإذا كان الأمر كذلك فما الضرر بعد ذلك أن يكتبه الله تبارك وتعالى من الأشقياء؟ قال: [وعن عبد الله بن مسعود قال: لأن أعض على جمرة وأقبض عليها حتى تبرد في يدي، أحب إلي من أن أقول لشيء قضاه الله ليته لم يكن].
أي: لا يعترض على قضاء الله وقدره.
قال: [ويقول الحارث: سمعت ابن مسعود يقول وهو يدخل إصبعه في فيه: لا والله لا يطعم رجل طعم الإيمان حتى يؤمن بالقدر، ويُقر ويعلم أنه ميت مُخرج، وأنه مبعوث من بعد الموت وكل هذا بقدر.
وقال ابن مسعود: إن العبد ليهم بالأمر من التجارة والإمارة حتى يتيسر له نظر الله من فوق سبع سماوات فيقول للملائكة: اصرفوا عنه.
فإني إن يسرته له أدخلته النار].
أرأيتم رحمة الله؟ أي: أن المرء يحب أن يفعل شيئاً، وربما يستخير الله عز وجل على فعل هذا الشيء، لكنه قبل أن يستخير يتمنى أن لو يُسر له هذا الأمر، إذاً: الاستخارة هذه ضعيفة جداً، والدعاء فيها يكاد يكون ميتاً؛ لأنه قد عقد قلبه على محبة هذا الشيء وحب الحصول عليه، فـ عبد الله بن مسعود يقول: وإن هذا العبد ليهم بفعل الأمر ويهواه ويشتهيه ولو أن الله تعالى يسره له لكان فيه هلكته، ولكن الله تعالى يصرفه.
فكم من رجل كان صاحب خلق ودين، فلما عمل بالتجارة فسدت أخلاقه وضاع دينه، وكم من رجل لما تأمر وتسلط وترأس نسي دينه تماماً، فبسبب معاصيه وانهماكه في معصية الله عز وجل يدخله الله تبارك وتعالى النار، ولو أن الله صرف عنه التجارة من الأول لكان في ذلك النجاة كل النجاة، ولكن العبد إنما يحب ما يراه هو خيراً لا ما يراه الله عز وجل؛ ولذلك شرع الله تعالى الاستخارة: (إذا هم أحدكم بالأمر -أي: إذا أراد أن يفعل شيئاً- فليركع ركعتين من غير الفريضة -أي نافلة- ثم ليقل: اللهم إني أسألك بعلمك -أي بعلمك السابق الأزلي الذي تعلم به الخير والشر- وأستقدرك بقدرتك وأستخيرك من فضلك، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم -وهذا من الأدب- اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر -الذي يريد أن يقدم عليه- خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري -أي: في الآخرة- آجله وعاجله فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري آجله وعاجله فاصرفه عني واصرفني عنه، ثم اقدر لي الخير حيث كان) فكأن العبد يرتمي بكليته في بحر علم الله عز وجل وبحر كرمه وفضله: يا رب اختر لي فأنا لا أعلم شيئاً.