السؤال عن الله بـ (أين) لا يستلزم التحيز ولا الجهة

يبقى سؤال هنا للذين يقولون: إن أمر الله هو الذي ينزل، وهو الذي يجيء ويأتي، فنسألهم: أين الله؟ فلا يقبلون هذا السؤال، ولا يحبون الجواب عنه، مع أن النبي عليه الصلاة والسلام سأل الجارية هذا السؤال بلفظه ومعناه: (أين الله؟ قالت: في السماء.

قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله.

فقال لسيدها ومولاها الحكم بن معاوية السلمي: أعتقها فإنها مؤمنة).

فشهد لها النبي عليه الصلاة والسلام بالإيمان؛ لأنها تعتقد وتقر بلسانها أن الله تعالى في السماء، ولذلك لا بأس أبداً من توجيه هذا السؤال، فإذا سألنا الذين يصرفون آيات الله تعالى عن ظاهرها فراراً من التشبيه بزعمهم، فنقول لهم: أين الله الذي يأتي الأمر من جهته؟ فسيضطربون اضطراباً عظيماً جداً في الجواب عن هذا السؤال، لذا فأول ما يفعله النفاة في مثل هذا الموقف أن يقولوا: لا يسأل عن الله بـ (أين).

وهم الآن ينفون هذا السؤال، ويخطئون من يسأل ويقول: أين الله؟ إذاً: فهم أعلم من النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه هو الذي سأل هذا السؤال، وليست الحجة في قول الجارية، وإنما الحجة في إقرار النبي عليه الصلاة والسلام للجارية، لكنهم يردون علينا بسؤالنا أين الله؟ بقولهم: هذا السؤال لا ينبغي أن يوجه، ولا يسأل عن الله بـ (أين)، مع أنه قد صح في صحيح مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أين الله؟) فيقولون: لأن إثبات الأينية لله عز وجل يستلزم الحيز والجهة، وإذا كان في حيز أو في جهة، فهذا يعني أنه داخل في بعض خلقه، وإذا كان داخلاً في بعض خلقه؛ فإن الخلق يحيط به، مع أن الله تعالى هو الذي أحاط بكل شيء علماً، وليس في المخلوقات من أحاط الله عز وجل، أو ما أحاط بالله عز وجل، فهكذا تفلسفوا، وهكذا تمنطقوا.

وهذا كلام في غاية العجب.

إذا كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (ما السماوات والأرض بالنسبة للكرسي إلا كحلقة في فلاة).

أي: في صحراء، في برية، في بادية، فهل تظهر هذه الحلقة؟ لا تظهر، إذاً فالسماوات والأرض بهذا الحجم الذي نراه إذا سرنا فيه ما هي بالنسبة للكرسي إلا كحلقة ملقاة في صحراء.

قال: (وما الكرسي بالنسبة للعرش إلا كحلقة في فلاة، والله تعالى مستو على العرش، والكرسي موضع قدميه سبحانه وتعالى).

والكرسي يحيط بالسماوات والأرض وزيادة؛ لأن السماوات والأرض بالنسبة للكرسي كحلقة في صحراء، وهذا الكرسي العظيم إنما هو موضع القدمين لله عز وجل، وهو بالنسبة للعرش كحلقة في فلاة، فما بالكم بالعرش كيف هو؟ لا يستطيع أحد أن يصف العرش، كما لا يستطيع أحد أن يصف الكرسي، مع أن الكرسي بالنسبة للعرش شيء قليل جداً، وشيء بسيط جداً، لكن هذا الشيء البسيط يحيط بالسماوات والأرض.

إذاً: فهل نحن مكلفون بأن نتفكر في ذات الله تبارك وتعالى؟ فإقحام العقول والأفكار والأفهام في البحث عن ذات الله عز وجل لا بد وأن يؤدي بالضرورة إلى ضلال صاحبه وتحيره وتيهه، وربما أدى به إلى الكفر بالله عز وجل، ولذلك أمرنا أن نتفكر في آيات الله، وألا نتفكر في ذاته تبارك وتعالى؛ لأن ذاته فوق كل فكر، وفوق العقول، وفوق الإدراك، ولا يمكن أبداً أن يحيط عقل بصفة من صفات الله، فضلاً أن يحيط بذات الله تبارك وتعالى.

وإذا كنا نعجز أن نصف الله عز وجل، فإننا بالتالي نعجز أن نتصور صفات المولى تبارك وتعالى التي منها: المجيء، بل علينا أن نسلم، وأن نؤمن بما جاء عن الله على مراد الله، وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله عليه الصلاة والسلام، فنؤمن بذلك ولا نخوض فيه، لا بعقل ولا بفكر.

ومن فضل الله عز وجل: أنه لا يسألنا عن ذاته، ولا يسألنا عن كيفية صفاته، والمرء إنما يحرص على ما ينفعه، وإقحام العقل في صفات الله عز وجل وفي ذاته إنما هو أمر يؤدي إلى الضرر، والعبد غير مسئول عن هذا، فهل يعقل أن يدع ما يسأل عنه بين يدي الله عز وجل من أحكامه وفرائضه وسننه، ثم يقحم نفسه في مسألة لم يكلفه الله تبارك وتعالى بها؟ على كل حال إذا كان النفاة لا يثبتون علو الله على خلقه، فلا معنى لقولهم: جاء أمر ربك؛ لأنهم لا يدرون من أين يأتي الأمر، وهم يقولون: إن الله في كل مكان، اللهم إلا إذا زعموا أن الأمر يأتي من كل مكان، لتصورهم أن الله تعالى في كل مكان، ولا نعلم أحداً قال بهذا القول، حتى هم لم يقولوا: إن الأمر يأتي من كل مكان، فالله عز وجل قال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22].

فنحن نعلم مجيء الرب تبارك وتعالى، ونعلم أنه يأتي من علو، وهؤلاء لا يثبتون العلو لله عز وجل، فنقول لهم: إذا فسرتم وأولتم مجيء الرب بأنه مجيء الأمر فمن أين يأتي الأمر؟ وهم يقولون: إن الله في كل مكان.

إذاً: يأتي الأمر من كل مكان، وهذا الكلام لم يقل به أحد، حتى هم لم يقولوا بذلك.

فليس لدى النفاة جواب بالنسبة لهذه الآيات ما لم يركبوا رءوسهم، إذ لم يبق هناك من يضيفون إليه المجيء؛ لأن الآية قطعت عليهم خط الرجعة كما يقولون، حيث ذ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015