صفة الإتيان ثابتة بالكتاب والسنة، فيأتي الرب يوم القيامة للفصل بين العباد، وقد ثبت ذلك في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، لكن المتأولة أبوا إلا أن يصرفوا مجيء الرب تبارك وتعالى إلى غير ظاهر النص، فقالوا في قوله تبارك وتعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22].
أي: جاء أمر ربك.
ولا شك أن هذا تحريف للكلم عن مواضعه؛ لأن تفسير مجيء الرب بالأمر ينفي صفة عن الله عز وجل أثبتها لنفسه، وهذا يصطدم مع معتقد أهل السنة من أنهم يثبتون لله ما أثبته لنفسه، فإذا أثبت الله لنفسه أنه يجيء، وأنه يأتي؛ فلا بد من إثبات هذه الصفة على الوجه اللائق به عز وجل، فيجيء حيث شاء، وكيف شاء، وفي أي وقت شاء، ولا نسأل عن الكيفية.
والذي يتأول مجيء الرب بأنه مجيء الأمر لا بد وأن ينفي عن الله عز وجل ما أثبته لنفسه، وكأنه يريد أن يقول: أنا أعلم بالله من الله، وأنا أعلم بالله من رسل الله؛ لأنهم أثبتوا جميع الصفات لله عز وجل، فأثبتوا صفات الكمال والجلال والعظمة، فإذا كان الله تعالى أثبت لنفسه المجيء، وأثبت لنفسه الإتيان، فلم نتكلف نحن في صرف هذه النصوص عن ظاهرها؟ كما أولوا المجيء بالرحمة، فقالوا في قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر:22].
أي: وجاءت رحمة ربك.
وهذا تأويل.
وهم مع ذلك يثبتون السمع والبصر والعلم والحياء وغيرها لله عز وجل، ويقولون: إن إثباتنا لصفة المجيء لله عز وجل يستلزم الحركة والانتقال، ويستلزم أنه في حيز، وأن السماء تحيطه، وأن العرش والكرسي من فوقه حين ينزل وحين يجيء، مع أنهم هم الذين ينكرون علو الله عز وجل، لكن المتأولة لا يثبتون على قدم واحدة، فيقولون في هذا الموطن كلاماً يردون على أنفسهم في موطن آخر، فهم الذين يقولون: إن القول بمجيء الرب يستلزم منه الحركة والانتقال.
كما أنهم يقولون: إنه لا ينزل؛ لأن نزوله يستلزم خلو العرش منه.
فنرد عليهم: بأنهم لم يثبتوا لله تبارك وتعالى الفوقية، وهم الذين يقولون بأن الله في كل مكان، فكيف الآن تعترفون؟! والنزاع ليس في الفوقية، وإنما النزاع في النزول، وهل الذي ينزل لا ينزل إلا من علو؟ فلا يتصور أنه يصعد من الدور الأرضي إلى الدور الثاني أو الثالث أو الرابع، ولا نقول: فلان نزل من الأرض إلى الدور الخامس، وإنما نقول: نزل من الدور الخامس إلى الدور الأرضي أو الرابع أو الثالث.
فالنزول في لغة العرب إلى أسفل، والارتفاع والعلو إلى علو، واستواء المولى تبارك وتعالى يختلف عن استواء المخلوقات، فاستواؤه لا يعلم كيفيته إلا هو، لكننا نعلم يقيناً أنه استوى؛ لأنه أخبرنا أنه استوى، فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، فالاستواء معلوم لدينا، لكن كيفية هذا الاستواء مجهول لا نعلمه؛ لأننا لا نعلم كيفية الذات، فكيف نعلم كيفية صفاته التي منها الاستواء؟ الذي نقوله في النزول والاستواء نقوله كذلك في المجيء والإتيان؛ فإن الله تعالى يأتي ويجيء حيث شاء، وبالكيفية التي يشاؤها ويريدها على الوجه الأكمل اللائق به تبارك وتعالى، ولا نقول: إنه يأتي كإتياننا، ويمشي كمشينا، ويهرول كهرولتنا، ويسارع كإسراعنا، بل كل ذلك بعيد عن الله عز وجل.
فصفة المجيء والإتيان جاءت في قول الله عز وجل: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22].
والمتأولة يقولون: المجيء هو مجيء الملائكة، وليس مجيء الله عز وجل، وهذا كلام فاسد وباطل، يبطله قول ربنا تبارك وتعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة:210].
ومع هذا فسروا ذلك لياً لأعناق النصوص، وقالوا: هل ينظرون إلا أن يأتيهم ملائكة الله في ظلل من الغمام؟ وكل ذلك حتى لا يفتروا -بزعمهم- على الله عز وجل أنه يجيء ويذهب، ويروح ويأتي، وغير ذلك، فإذا كان الله تعالى أثبت لنفسه ذلك، فلم أتكلف أن أصرف ذلك عن ظاهره؟ قال تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام:158].
فهذه الآية مفحمة؛ لأن الله تعالى أثبت فيها إتيانه، وأثبت فيها إتيان الملائكة، وأثبت فيها إتيان بعض أمر ربك.
فإذا قالوا: إن إتيان الله يعني إتيان بعض آياته؛ فقد أثبتته الآية.
وإذا قالوا: إنه إتيان الملائكة وإتيان الأمر؛ فقد أثبتته الآية، فيبقى إتيان الله عز وجل، فلابد وأن يقروا بأن الله تعالى يأتي إتياناً يليق بجلاله وكماله.
ومن التقاليد الموروثة لدى كثير من المفسرين الذين ينهجون منهج الخلف ومنهج المتأولة: أنهم يفسرون المجيء المذكور في سورة الفجر: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22] بمجيء أمر الله تعالى.