مذهب ثالث يقول: إن الله تبارك وتعالى لا ينزل.
قالوا: لأن نزوله يستلزم خلو العرش منه.
انظر الكلام الغريب! يضربون القرآن بعضه ببعض؛ لأن القرآن يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ولا يفهمون من النزول إلا ما يفهمونه هم من صفاتهم: بأن الواحد منهم إذا جلس على الكرسي ونزل عنه خلا الكرسي عنه، فإذا كنت تقول: إن صفات الله عز وجل كصفاتك فيلزمك أن تقول بخلو العرش، وإذا كنت تقول: إن الله تعالى ليست ذاته ولا صفاته كذاتي وصفاتي فيلزمك أن تقول: إن نزول المولى تبارك وتعالى لا يستلزم منه خلو العرش؛ لأن الله تبارك وتعالى فوق كل شيء وهو بائن عن كل شيء.
فإذا قلت: إن الله تعالى ينزل ويخلو منه العرش فلا بد أن تقول حين نزول المولى تبارك وتعالى: إن العرش أعلى من الله عز وجل، وأن السماوات السبع أعلى من الله عز وجل، وأن الكرسي أعلى من الله عز وجل، وأن الماء أعلى من الله عز وجل، ولا يقول بهذا إلا جاهل أو كافر، فما الذي يمنعك أن تقول: إن نزول المولى تبارك وتعالى لا يستلزم خلو العرش منه، لأن هذا لا يليق إلا بالعاجز المخلوق، وأما الخالق تبارك وتعالى فلا ينفي دنوه علوه؛ وذلك لأنه يفعل ما يشاء، لا يسأل عما يفعل، بلم ولا كيف.
فنحن نعتقد أن الله تبارك وتعالى استوى على الكرسي، واستوى على العرش، وهو مع خلقه يدنو منهم وينزل وهو مستو على العرش تبارك وتعالى، لا يخلو منه العرش، بل هذا كلام حادث أحدثه أهل البدع لا نحب أن نخوض فيه، ولكنني ذكرت ذلك على سبيل الإجمال وعلى وجه السرعة؛ لأنه ربما خطر ببالك كما خطر ببال بعض السلفيين في هذا الزمان أنهم خاضوا في هذه القضية، وعيب عليهم أن يخوضوا فيها وإن كانوا علماء؛ لأنه يجب عليهم أن يسلموا لله عز وجل ويؤمنوا إيماناً مطلقاً جازماً بكل ما أثبته الله تعالى لنفسه وما أثبته له رسوله من غير تكييف ولا تحريف، ومن غير خوض ولا تكلف تأويل، ولكنهم مع هذه القواعد الثابتة المستقرة في قلوبهم خاضوا في كيفية النزول لله عز وجل، وقالوا: هل يخلو منه العرش أم لا؟ وهذه مرحلة أخشى أن تؤدي بعد ذلك إلى القول بخلو العرش حقيقة ويقيناً عندهم، فيقعوا فيما وقع فيه أهل البدع.