السلف أهل الحق يثبتون النفس لله سبحانه، ويسكتون عما وراءه من الخوض في حقيقتها أو كيفيتها، مادام الله تبارك وتعالى أثبت النفس لنفسه فما المانع أن أثبتها وأكف عن الخوض في الكيفية كما كففت عن بقية الصفات؟ وينزهون الله عن مشابهة نفسه بأنفس المخلوقين، كما لا يقتضي عندهم أن يكون سبحانه مركباً في نفس وبدن تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً! وقد وردت الآيات والأحاديث الدالة على إثبات هذه الصفة لله تعالى، كما قال الحافظ عبد الغني المقدسي وقد تقدم ذكر ذلك.
وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (لما خلق الله الخلق كتب في كتاب فكتبه على نفسه: إن رحمتي سبقت غضبي).
فما جوزه النووي رحمه الله من التأويل مردود مخالف لمنهج السلف، أما ما ذكره أولاً من أن المراد بالنفس الذات فله وجه في العربية، فإن النفس تأتي في كلامهم بمعنى الذات كما فصله شيخ الإسلام ابن تيمية، وعليه حمل النصوص التي فيها إثبات هذه الصفة لله عز وجل.
بينما ذكر غيره هذه النصوص مثبتاً بها أن النفس صفة لله تعالى يظهر ذلك من صنيع ابن خزيمة فإنه قال: باب: (ذكر البيان من خبر النبي صلى الله عليه وسلم في إثبات النفس لله).
ثم حشد النصوص في ذلك، ثم قال: (فالله جل وعلا أثبت في آي من كتابه أن له نفساً، وكذلك قد بين على لسان نبيه أن له نفساً، وكفرت الجهمية بهذه الآي وهذه السنة، وزعم بعض جهلتهم: أن الله تعالى إنما أضاف النفس إليه على معنى إضافة الخلق إليه، وزعم أن نفسه غيره -أي: زائدة- كما خلق غيره، وهذا لا يتوهمه ذو لب وعلم فضلاً عن أن يتكلم به).
وقد كتب الله الرحمة أفيتوهم مسلم أن الله كتب على غيره الرحمة؟ يعني: إذا كان الله تبارك وتعالى يقول: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:28]، فإذا كانت النفس بمعنى الغير وبمعنى الخلق، فيكون المعنى: ويحذركم الله غيره، فهل يستقيم المعنى هكذا؟
صلى الله عليه وسلم لا.
قال: (وحذر الله العباد نفسه، أفيحل لمسلم أن يقول: إن الله حذر العباد غيره؟ أو يتأول قوله لكليمه موسى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه:41] إذا كان المقصود بالنفس الغير أو الخلق فهل يقال: واصطنعتك لغيري من المخلوقين؟
صلى الله عليه وسلم لا.
ولا يستقيم هذا المعنى.
أو يقول: أراد الروح لله بقوله: {وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة:116].
أي: ولا أعلم ما في غيرك.
هذا ما لا يتوهمه مسلم ولا يقوله إلا كل معطل كافر انتهى كلامه.
وإلى أنها صفة للذات ذهب أبو عبد الله محمد بن خفيف في كتابه (اعتقاد التوحيد)، فقد نقل عنه ابن تيمية عقيدته، ومما فيها: إثبات النفس لله تعالى، فقال بعد أن أورد النصوص من الكتاب والسنة في إثبات النفس: فقد صرح بظاهر قوله أنه أثبت لنفسه نفساً، وأثبت له الرسول ذلك، فعلى من صدق الله ورسوله اعتقاد ما أخبر به عن نفسه، ويكون ذلك مبنياً على ظاهر قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11].
يعني: نفس ليست كأنفس المخلوقين.
ثم قال: فعلى المؤمنين خاصتهم وعامتهم قبول كل ما ورد عنه عليه الصلاة والسلام بنقل العدل عن العدل حتى يتصل به إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال صديق حسن خان: ومما نطق به القرآن وصح به النقل من الصفات: النفس.
وسرد الآيات والأحاديث الواردة في ذلك، وهذا هو الصواب الموافق لمنهج السلف.
وخلاصة الأمر: أننا لابد وأن نثبت لله تبارك وتعالى نفساً كما أثبتها سبحانه وتعالى لنفسه، وأثبتها له رسوله الكريم، وأن هذه النفس هي صفة لله تبارك وتعالى.
ويحتمل -وهو بعيد في الشرع لا في لغة العرب-: أن تكون النفس هي الذات، فإن كانت النفس هي الذات في المخلوقين، فإن الخالق لا يقاس على المخلوقين، فإن نفسه صفة لازمة لذاته، وهي صفة ذاتية خبرية قد وردت في الأخبار والآثار.