قال: [عن طاوس سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (احتج آدم وموسى)] يعني: كانت بينهما محاجة، كلٌ منهما يذكر حجته على الآخر، كأنها خصومة أو مناظرة: [(احتج آدم وموسى، فقال موسى لآدم: أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة)].
أي: بسبب فعلك يا آدم! كنت سبباً في طرد الخليقة من الجنة، وذلك لما طردك الله عز وجل وأهبطك على الأرض، وكانت بعد ذلك الذرية والنسل، فكان موطن الذرية الأرض لا الجنة، فأنت الذي خيبتنا، وأنت الذي أخرجتنا من الجنة.
قال: [قال له آدم: (أنت موسى اصطفاك الله بكلامه)].
وهذا إثبات لصفة الكلام لله عز وجل، وأن الله كلم موسى تكليماً من وراء حجاب، فموسى سمع كلام الله عز وجل بنفسه لا عن طريق الوحي، ولا عن طريق جبريل عليه السلام، وإنما سمع موسى كلام المولى عز وجل.
والجعد بن درهم -ذلك المبتدع الأثيم- أنكر أن الله اتخذ إبراهيم خليلاً، وأن الله كلم موسى تكليماً، وقام خالد بن عبد الله القسري في عيد الأضحى وخطب الناس، ثم نزل من على سلم المنبر وقال: أيها الناس! ضحوا تقبل الله منا ومنكم، فإني مضح بـ الجعد بن درهم؛ لأنه أنكر أن الله تعالى كلم موسى تكليماً، وأنه اتخذ إبراهيم خليلاً.
فذبح الجعد بن درهم عند أصل المنبر.
أي: عند أول عتبة المنبر، مع أن الجعد استجار بعد ذلك؛ وكأنه يريد أن يعتذر من مقالته خوف القتل، ولكن خالد القسري لم يأبه لذلك وقال: إن هذه مقولة صار لها أتباع، وصار لها متقولون يتقولون بها ويجهرون بها.
فقتله لخطورته، كما أن الذي أتى به الجعد هو كفر بواح، فلو قتله لكفره اجتهاداً لكان هذا اجتهاداً سائغاً، ولو قتله لعظيم بدعته التي انتشرت في العامة والخاصة لكان قتله كذلك لمنع الفتنة أمراً جائزاً في الشرع، فعلى الوجهين قد أصاب خالد بن عبد الله القسري.
قال: [قال آدم لموسى: (أنت موسى، اصطفاك الله بكلامه وخط لك التوراة بيده)].
والضمير يعود على يد الله عز وجل.
أي: أن الله تعالى هو الذي كتب التوراة بيده، وهذا هو الأمر الثاني الذي فعله الله عز وجل بيده الشريفة، خلق آدم بيديه، وكتب التوراة بيده.
وقال في رواية أخرى: (يا موسى! ألم تعلم أن الله تبارك وتعالى خط التوراة بيده قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ قال: بلى).
وهذا إقرار من موسى عليه السلام أن الله كتب التوراة في الأزل قبل أن يخلق آدم وقبل أن يخلق الخلق.
ومعلوم أن بين آدم ونوح عشرة قرون، وقبل نوح -بل وقبل الخلق أجمعين بأربعين سنة- خط الله عز وجل التوراة بيده، وكتب في التوراة الخطيئة التي ستقع من آدم، وأن آدم بعد عصيانه سيتوب ويستغفر وينيب إلى ربه.
فقال له: وأن الله خط لك التوراة بيده، وكتب فيها ما قد وقع مني، وأنه أمر قدره علي قبل أن يخلق السماوات والأرض بأربعين سنة.
قال: [(تلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟)].
إن كتاب التوراة هو الكتاب الذي أرسل به موسى، وبين موسى وآدم عشرة قرون، وقبل خلق آدم بأربعين سنة خط الله عز وجل التوراة بيده ويمينه، ثم أثبت في هذه التوراة أن آدم سيعصي، وسيتبع شيطانه فيما يسول له ويجمل من الأكل من شجرة في الجنة؛ طلباً للخلد، فعصى آدم ربه فغوى.
ثم قال آدم لموسى: أتلومني على ذلك؟ هذا أمر قدره الله عز وجل علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة! فلو أننا اعتبرنا أن القرن (100) عام إذاً: قبل (1040) سنة كتب الله عز وجل في التوراة أن آدم سيعصي ولكن هذا على سبيل المثال.
قال النبي عليه الصلاة والسلام: [(فحج آدم موسى)] يعني: فارتفعت حجة آدم على حجة موسى.
قال: [أخرجه البخاري ومسلم].
ولكن ربما ينطبع في أذهان الحاضرين أنه يجوز للمرء أن يحتج بالقدر على المعصية، فيقول: آدم نفسه قال: (أتلومني على أمر قدره الله عز وجل علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟).
يعني: هذا مكتوب في اللوح المحفوظ.
فنقول: إن إجماع أهل السنة والجماعة على أنه لا يجوز لأحد أن يحتج بالقدر على المعاصي.
الأمر الثاني: الفارق بين من يحتج بالقدر على المعصية وبين آدم: أن آدم لما عصى تاب إلى الله عز وجل، وهذا لم يتب.
الأمر الثالث: أن آدم قال ذلك وهو ليس في دار التكليف، وأنت تحتج بالقدر على المعصية وأنت في دار التكليف.
فمن هذه الفوارق لا يجوز لأحد أن يعتمد على القدر في استباحة واستجازة معاصيه، وهذا الأمر محل اتفاق بين العلماء في عدم الجواز.