أيضاً الذين أثبتوا هذه الأحاديث، هم أحسن حالاً ممن سبق، هؤلاء قالوا: سنسلم بأن هذه الأحاديث صحيحه، وأننا سنحتج بها في الاعتقاد، لكنهم ذهبوا مذهباً آخر، واضطربوا اضطراباً شديداً، وتحيروا وتخبطوا، فقالوا: هذه الأخبار صحيحة ولكننا سنؤولها -وهؤلاء الأشاعرة- ونصرفها عن ظاهرها، وعن المراد منها، ومحاولة التأويل بدعوى أن مثل هذه النصوص لا يراد ظاهرها؛ لأن الأدلة العقلية تأبى ذلك، ومن أصول المبتدعة: تقديم العقل على النقل، لكن من أصول أهل السنة تقديم النقل على العقل، والذي خلق العقل هو الله عز وجل؛ لأنه لا خالق غيره ولا رب سواه، وهذا العقل منه الفاسد ومنه السليم، ونصوص الشرع منها الصحيح ومنها السقيم، فالصحيح كتاب الله عز وجل وما صح عن النبي عليه الصلاة والسلام، والسقيم منها: الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وإذا كان الخلاف وقع بين أهل العلم فيما يتعلق بالاحتجاج بالضعيف في فضائل الأعمال، فمن باب أولى وأحرى إذا كان هذا الخبر الضعيف يثبت صفة لله عز وجل فلا نثبتها، لأنهم يشترطون في ذلك يأتي الخبر من طريق صحيح، ومن طريق الثقات.
فقولهم إنما نؤول الأصابع لأنها لا تتفق مع العقل؛ ولأن الأدلة العقلية تأبى ذلك، لأنهم تصوروا أن أصابع الخالق كأصابع المخلوقين، فأرادوا أن ينزهوا الله تبارك وتعالى برفض الأدلة، وإما أن ينزهوه بتأويل الأدلة، فلما ثبتت الأدلة ثبوتاً يقينياً قالوا: إن هذه الأدلة ظاهرها غير مراد.
يعني الكلام هذا على سبيل المجاز.
أي: أن الكلام هذا لا يقصد به حقيقة الأصابع، فيصرفون النص عن ظاهره ويقولون بالمعنى المترتب عليه، وهو القبض وهو لا يتم إلا بالأصابع، والبسط لا يكون إلا بالأصابع وغير ذلك، والحثيات كذلك لا تكون إلا بالأصابع، أي براحة اليد وبالأصابع، فلما ثبت هذا كله لله عز وجل أردوا أن يقولوا: إن هذه الأصابع إنما هي فرع وتصور عن اليد التي هي أصلاً عندهم القوة، فالأصابع لا يراد منها الظاهر بل هي مجاز لله عز وجل، والمجاز فيما يتعلق بأمور الغيب -خاصة فيما يتعلق بالباري تبارك وتعالى- لا يجوز قط، وليس هو منهج أهل السنة والجماعة، لأنهم يثبتون لله تبارك وتعالى ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله على الوجه اللائق به حقيقة لا مجازاً، فإن لله يد حقيقة، لكن لا يعلم كيفية هذه اليد إلا الله عز وجل.
أما المبتدعة قالوا: لابد من التأويل إلى ما يليق ويقبله العقل، فنقول: هذا غيب لا دخل للعقل فيه، والغيب ابتلاء من الله عز وجل، فالجنة والنار والحور العين لا نقول فيها أنها مجاز، وإلا للزم من ذلك القول بأن الله عز وجل مجاز؛ لأنه ليس ذاتاً حقيقية -حسب زعمكم- لأنكم أنكرتم الصفات اللازمة للذات، فإذا كنتم تنكرون هذه الصفات وتؤولونها بأنها مجاز لابد وأنكم تقولون في النهاية بأن الذات العلية كذلك مجاز.
إذاً: في النهاية لا يوجد إله.
ويصح هنا ما قاله ابن تيمية: إن المعطل يعبد عدماً، وإن الممثل يعبد صنماً.
فـ ابن تيمية لم يقل هذا الكلام من فراغ بل هو خبر قلوب القوم لا أقوال ألسنتهم، فعلم بنور من الله عز وجل أن المعطلة الذين يعطلون الصفات ويلزم بذلك أن يعطلوا الذات يعبدون عدماً؛ لأنهم في النهاية لا يكون لهم إله؛ لأنه لا يتصور أن يكون هناك ذات بغير صفات، فإذا كانوا نفوا الصفات فلابد وأن ينفوا في النهاية الذات.
والممثلة على النقيض من ذلك، فهم يثبتون أن لله تعالى يداً كأيدينا وعيناً كأعيننا، وساقاً كساقنا، وأصابع كأصابعنا، وينزل كنزولنا، ويجيء كمجيئنا، فيصورونه في النهاية شخصاً، فهم يعبدون صنماً؛ لأن الله تبارك وتعالى لا يشبه أحداً من خلقه لا في ذاته، ولا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله.
وقال آخرون: يحتمل أن يكون المراد بالأصابع خلقاً يخلقهم الله عز وجل ليحملوا ما تحمله الأصابع.
وهذا تأويل ساذج إذ جعلوها شيئاً حادثاً منفصلاً عن الذات، وصفات الله تبارك وتعالى ليست حادثة، لأنك لو قلت بحدوثها فيلزمك أن تقول: إن الله كان متصفاً بالنقص فكمل نفسه.
وهذا كفر والعياذ بالله.
وقال آخرون: لعل المراد بالأصابع نعمة النفع والدفع، أو أثر الفضل والعدل إلى آخر تلك التكلفات التي نحن في غنى عن سردها؛ لأن حسن اعتقادنا في الله عز وجل أن نؤمن بما جاء في الكتاب والسنة عن صفات الله عز وجل على الوجه اللائق به تبارك وتعالى، ولذلك فإن منهج أهل السنة في غاية الراحة والطمأنينة، ولذلك إذا أتاك أي خبر لابد وأن تسأل: من القائل به؟