قال المصنف رحمه الله تعالى: [سياق ما دل من الكتاب والسنة والإجماع على أن القرآن تكلم الله به على الحقيقة].
وكلمة (على الحقيقة) وضعها أهل السنة للرد على من قال: إن كلام الله مجازي، وإن كلام الله نفساني، فكلام الله على الحقيقة، تكلم به بحرف وصوت، وأنزله الله سبحانه وتعالى على محمد صلى الله عليه وسلم من السماء، وهذا يدل بمفهوم الموافقة أو بالاستنباط على أن الله تبارك وتعالى مستوٍ على عرشه، بائن من خلقه، وقد أنزل هذا القرآن على محمد وأمره أن يتحدى به، وهذا يدل على أن القرآن معجز ولا يستطيع أحد أبداً أن يأتي ولو بآية من مثل كتاب الله عز وجل، وأمر الله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يدعو الناس إليه، وهذه صفة خامسة: أن النبي عليه الصلاة والسلام بعد البيان لابد أن يدعو الناس إلى هذا القرآن، وأنه القرآن على الحقيقة، يعني: تكلم الله به بحرف وصوت.
قال: [متلو في المحاريب، مكتوب في المصاحف، محفوظ في صدور الرجال، ليس بحكاية ولا عبارة عن قرآن].
أي: ليس بقصة افتعلها جبريل، ولا عبر جبريل عن هذا الكلام الذي دار في نفس الله عز وجل.
فقوله: (ولا عبارة عن قرآن) يعني: هو كلام الله على الحقيقة.
قال: [وهو قرآن واحد غير مخلوق وغير مجعول -والمجعول بمعنى: المخلوق- ومربوب -أي: وغير مربوب- بل هو صفة من صفات ذاته، لم يزل به متكلماً -يعني: يتكلم في أي وقت شاء- ومن قال غير هذا فهو كافر ضال مضل مبتدع مخالف لمذهب أهل السنة والجماعة].
هذا مجمل عقيدة أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بكلام الله عز وجل، كما قال الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164]، فالله تعالى يتكلم، وقد كلم موسى، والذي يقول: إن الله لم يكلم موسى معناه: أنه مكذب للقرآن، منكر لهذه الصفة.
وقال الله تعالى: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف:144].
وقال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6]، يعني: أن الله عز وجل يتكلم.
وقال تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} [الفتح:15].
فالله عز وجل يتكلم بكلام أنزله من السماء على نبيه؛ ولذلك قال الله عز وجل: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} [النمل:6].
وقال تعالى: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ} [الأنبياء:50].
وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص:29].
فهذه الآية لها حكاية وقصة عصرية، إذ كل زعيم في كل زمان يبحث له عن آية تناسبه، فيتأول القرآن هؤلاء المنافقون الزنادقة ويتأكلون به، فيصرفون كلام الله عز وجل على غير مراده، وهكذا إلى أن ظهر الرئيس مبارك، فيقال: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص:29]، والله إن هذا التأويل قد حدث في جامع الأزهر.
وقال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89]، إذاً: هذا القرآن منزل من عند الله عز وجل.
وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} [الشعراء:192 - 193] أي: جبريل عليه السلام.
فأشار الله عز وجل إلى أن كلامه غير مخلوق، وهو منزل منه سبحانه، فمن قال: إن القرآن هو الذي في السماء -أي: في اللوح المحفوظ فقط دون الذي بين أيدينا- أو من قال: إن القرآن في السماء -يعني: لم يتكلم به الله عز وجل وإنما دار في نفسه- فقد خالف الله ورسوله، ورد معجزات نبيه، وخالف السلف من الصحابة والتابعين والخالفين لهم من علماء الأمة.
وقال عكرمة: سمعت أبا هريرة يقول: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله)، والضمير يعود على الله عز وجل (خضعاناً لقوله)، إذاً: فهو يتكلم، قال: (كأنها سلسلة على صفوان)، والصفوان: هو الحجر أو الجبل الأملس.
قال: (فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق، وهو العلي الكبير)، أخرجه الإمام البخاري في صحيحه.
وعن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا فيصعقون، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل، فإذا جاءهم جبريل فزع عن قلوبهم، فيقولون: يا جبريل! ماذا قال ربك؟ قال: يقول الحق، قال: فينادون الحق الحق)، فيرددون أن الله تعالى يتكلم بالحق.
وهنا منقبة عظيمة لـ عبد الله بن مسعود أن