[قال هرقل لترجمانه: قل له -أي: قل لـ أبي سفيان - إني سألتك عن حسبه فيكم، فزعمت أنه فيكم ذو حسب، وكذلك الرسل تبعث في أحساب قومها].
إذاً ليس هناك نبي عنده منقصة في قومه، ولا في حسبه، فقد أرسل الله عز وجل الأنبياء والرسل وهم أشراف أقوامهم، وأحساب أقوامهم.
قال: [وسألتك: هل كان من آبائه ملك؟ فزعمت أن لا، فقلت: لو كان في آبائه ملك لكان رجلاً يطلب ملك آبائه]، أي: له حق مسلوب مغصوب يطالب به الآن، بعد أن اشتد ساعده يطالب بثأر آبائه وأجداده.
[وسألتك عن أتباعه: أضعفاؤهم أم أشرافهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم، قال هرقل: وهم أتباع الرسل].
ولذلك الإسلام ينتشر بحمد الله عز وجل في طبقة الفقراء أكثر من انتشاره في طبقة الأغنياء، والالتزام والإقبال على دين الله عز وجل، والتمسك بالسنة إنما يكون بين الفقراء أكثر، فالإسلام ينتشر، والالتزام يظهر، وتظهر السنن في وسط هؤلاء الأقوام على علة فيهم على أية حال، لكن يبقى أن الإسلام يجد طريقه سهلاً ميسوراً إلى قلوب الفقراء والمساكين، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين)، وهو حديث حسن على الراجح، وغير ذلك من الآيات التي وردت في كتاب الله تحث على صحبة المساكين، وعدم ازدرائهم، وكذلك في سنة النبي عليه الصلاة والسلام، والناظر إلى أتباعه يجد أن من أوائل أتباعه صهيب الرومي، وبلال الحبشي، وغير ذلك من الموالي والعبيد.
قال: [وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فزعمت: أن لا، فعرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ويذهب يكذب على الله عز وجل]، يعني: لا يتصور أنه يدع الكذب عليكم ثم يكذب على الله! لأن الذي يكذب على الله من باب أولى أن يكذب على الناس، والذي اعتاد الكذب في حديث الناس ربما يكذب على الله عز وجل، فإذا كان النبي عليه السلام لا يعلم عنه الكذب قط في حديثه مع الناس فمن باب أولى ألا يفتري الكذب على الله عز وجل بأن الله أرسله، وأن الله أوحى إليه، وأن الله تعالى كلفه بالرسالة والنبوة كل هذا ممتنع في حقه؛ لأنه لم يعلم عنه الكذب في حديث الناس؛ فمن باب أولى أن يكون كذلك مع الله.
قال: [وسألتك: هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخله سخطة لدينه؟ فزعمت: أن لا، وكذلك الإيمان إذا خالط بشاشته القلوب].
يعني: إذا تمكن نور الإيمان من القلب لا يمكن أن ينخلع منه، ولذلك الذي يرتد عن دينه، أو منهجه، أو مسلكه لابد أن تعلم أن أصل تربيته على هذا النهج كان فيها خلل، فالذي يتحول عن تمسكه بالكتاب والسنة ويترك مذهب ومنهج السلف وسبيلهم فلابد أن تعلم مهما طال التزامه وانخرط في سلك السلف لابد أن تعلم أن تربيته إنما كانت تربية سطحية ليس فيها تأصيل، ولذلك لما عرض عليه منهج الغير تحول إليه، ولذلك لا يمكن لأحد قط أن يتعرف على منهج الخلفاء الراشدين، والأئمة المتبوعين وكلامهم في المنهج، والمسلك، والمشرب، والأخلاق، والسلوك، ثم يتعرف على أئمة الرواية كـ البخاري، ومسلم، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والبيهقي، وأحمد بن حنبل وغيرهم ثم يرضى أن يكون بعد هؤلاء العظماء الشرفاء تبعاً لواحد من الناس خطؤه أكثر من صوابه، لابد أن يكون في تربيته خلل.
قال: [وسألتك: هل يزيدون أم ينقصون؟ فزعمت.
أنهم يزيدون، قال: وكذلك الإيمان حتى يتم].
يعني: كذلك الإيمان يزيد حتى يبلغ المنتهى، وتصوروا أن الرجل الكافر يعلم أن الإيمان يزيد وينقص! لماذا؟ لأن الإيمان هو دين الأنبياء جميعاً، وهرقل كان نصرانياً يعلم من دين عيسى عليه السلام أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد حتى يبلغ درجة التمام، وينقص بالمعاصي حتى لا يبقى منه شيء.
ولذلك قال سفيان: واعلم أن أهل السنة والجماعة على أن الإيمان يزيد وينقص، فقال له أخوه إبراهيم بن عيينة: لا تقل: وينقص، قال: اسكت يا صبي -وفي راوية: اسكت يا غبي- إنما ينقص حتى لا يبقى منه شيء.
وأظن أن رواية: (اسكت يا غبي) إنما هي تصحيف صبي؛ لأن إبراهيم أصغر من سفيان، وسفيان كان إماماً منذ كان عمره عشرين عاماً، وهكذا أئمة الدين السابقين، كما ثبت عن مالك رحمه الله أنه قال: ما جلست في مجلسي هذا -أي: في مجلس التدريس والإفتاء- إلا بعد أن أجازني سبعون من أهل المدينة، قيل: كم كان عمرك وقتئذ قال: لقد بلغت خمسة عشر عاماً! وكذلك ثبت عن الشافعي عليه رحمة الله أنه بلغ الإمامة في صباه، قيل له: متى؟ قال: قبل أن تنبت لحيتي، وفي رواية: قبل أن يسود وجهي، أي: تنبت لحيتي.
قال: [وسألتك: هل يزيدون أم ينقصون؟ فزعمت أنهم يزيدون، وكذلك الإيمان حتى يتم]، يعني: الإيمان ي