والشرع له موقف ثابت لا يتزعزع من السحر والسحرة، ومن الحسد والحاسدين، وقد جاء الإسلام وشن حرباً لا هوادة فيها على السحرة، والكهان، والعرافين، وعد الرسول صلى الله عليه وسلم السحر واحداً من الجرائم المهلكات، وفي حديث آخر قال عن مصدق الكهان: (فقد كفر بما أنزل على محمد) وعد الذي يقتبس شعبة من النجوم أنه قد اقتبس شعبة من السحر، وذهب كثير من العلماء إلى وجوب قتل الساحر، وعدم صحة توبته، وصح عن عمر بن الخطاب أنه أمر ولاته في شتى أنحاء الدولة الإسلامية بقتل كل ساحر وساحرة، وفعلاً نفذ بعض الولاة أوامر الخليفة الراشد، ولذا فإن السحرة لم توجد لهم سوق رائجة في ديار الإسلام، وكان المسلمون المستقيمون ينظرون إلى السحرة نظرة ازدراء واحتقار، ومع ذلك فإن ديار الإسلام لم تخل على مر التاريخ من السحر والسحرة، ولكن المسلمين كانوا ينظرون إليهم نظرة مقت، وكانت سيوف الحكام تلاحقهم بالقتل، والطرد، والإيذاء، وألسنة العلماء تبين خبثهم ودجلهم، وضلالهم.
يذكر ابن كثير في البداية والنهاية في حوادث سنة أربع وثمانين ومائتين: أن الخليفة المعتضد أمر بأن ينادى في جميع أنحاء البلاد بألا يجتمع العامة على قاص، ولا منجم، ولا جدلي، والقاص هو الذي يقص الإسرائيليات والخرافات وغير ذلك، والمنجم هو ساحر عن طريق استعمال النجوم، والجدلي هو الذي يجادل في الدين بغير علم.
وقد تحدث ابن خلدون عن تاريخ السحر عند المسلمين فقال: علوم السحر والطلسمات مهجورة عند الشرائع لما فيها من الضرر، ولما يشترط فيها من الوجهة إلى غير الله من الكواكب والنجوم وغير ذلك، ولذلك فإن كتبها -أي: الكتب المؤلفة في السحر- كالمفقودة بين الناس، إلا ما وجد من كتب الأقدمين فيما قبل نبوة موسى عليه السلام، ولم يترجم لنا من كتبهم إلا القليل، مثل كتاب الفلاحة النبطية لـ ابن وحشية من أوضاع أهل بابل، فأخذ الناس منها هذا العلم وتفننوا فيه، ووضعت بعد ذلك الأوضاع مثل مصاحف الكواكب السبعة، وكتاب طمطم الهندي في صور الدرج والكواكب وغيرها.
ثم ظهر بالمشرق جابر بن حيان كبير السحرة في هذه الملة، فتصفح كتب القوم، واستخرج الصناعة، وغاص في زبدتها، واستخرجها ووضع فيها عدة من التآليف، وأكثر من الكلام فيها، وفي صناعة السيمياء؛ لأنها من توابعها؛ ولأن إحالة الأجسام النوعية وتبدلها من صورة إلى صورة ومن هيئة إلى هيئة، إنما تكون بالقوة النفسية الخبيثة لا بالصناعة العملية، فهو من قبيل السحر، وسيأتي معنا ذلك بإذن الله تعالى.
وغير ذلك من الكتب المصنفة في هذا ككتاب غاية الحكيم الذي صنفه مسلمة بن محمد المجريطي إمام أهل الأندلس في السحر، وكتاب آخر اسمه: الغاية لنفس المؤلف، وهو مدونة وموسوعة في هذه الصناعة، وكتاب لـ صخر بن الخطيب اسمه: السر المكتوم، وذكر ابن خلدون أن بالمغرب صنفاً من هؤلاء المنتحلين لهذه الأعمال السحرية يعرفون بالبعاجين، يشير الواحد منهم إلى الكساء أو الجلد فيتخرق، ويشير بإصبعه إلى الجدار فينخرم الجدار، ويشيرون إلى بطون الغنم بالبعج -يعني: بالخرم- فتنخرم بطن النعجة، ويسمى أحدهم لهذا العهد باسم البعاج؛ لأن أكثر من ينتحله من السحر متخصصون في البهائم، ويرهب بذلك أهلها ليعطوه من فضلها، خوفاً على أنفسهم من الحكام، فإن الحكام في المغرب كانوا يتعلمون السحر ويعانونه كذلك.
وقال ابن خلدون: سألت بعضهم فأخبرني فقال: وأما أفعالهم فظاهرة موجودة وقفت على الكثير منها، وعاينتها من غير ريبة في ذلك.