وهناك فروق يسيرة بين السحر والحسد: فالحاسد تتكيف نفسه بالخبث؛ أي: تتصف نفسه بالخبث فتصبح نفساً غضبية خبيثة حاسدة تؤثر في المحسود بطريقين: الطريقة الأولى: قوة النفس الذاتية، بحيث يتمكن الخبث من النفس، فلا تكاد تجد في نفس الحاسد طيباً، وهي في هذه الحال تؤثر في المحسود غاب أم حضر، يعني: هو جالس في مصر يحسد واحداً في قطر، فهي نفس خبيثة امتلأت شراً.
أما الطريقة الثانية: فهي طريقة العائن، والعائن هو الذي ينظر بعينه، لا يستطيع أن يحسد شخصاً بعيداً عنه، لا بد أن يراه، وقد كان في بلادي رجل عائن يحسد، وكان ساكناً في آخر الشارع، وكان يحسد رجلاً، فذهب المحسود وأتى بشخص حاسد آخر من أجل أن يحسد له الحاسد، فلما رأى الحاسد قد خرج من البيت قال له: هذا هو في آخر الشارع فاحسده إذاً، فقال له: أنا لا أرى شيئاً وأنت تراه؟ قال له: نعم، قال له: أنت نظرك حاد، وغير ذلك من هذه البلايا، فوقع المحسود في الحسد، فالعائن لا يستطيع أن يحسد من غاب عنه، فإن نفسه خبيثة لكن لم تبلغ في الخبث مبلغ الأول، والعائن الذي يمرض ويؤذي غيره بسبب تلك النظرة الخبيثة المنبعثة من أعماق نفسه يضر غيره لأمرين: أولاً: لشدة العداوة والحسد، فإذا قابل العائن عدوه ورآه بعينه وتوجهت نفسه الخبيثة إلى المنظور إليه أضر به، وكل ذلك لا يقع إلا بإذن الله وقدره.
الثاني: الإعجاب، فهو يضره عن طريق الإعجاب، كأن يقول: يا سلام! أنت تراه وأنا لا أراه، فهذا إعجاب بحدة النظر، ولذلك فإن الحسد يقع من الحاسد قصده أو لم يقصده، والصحابة الذين هم أشرف مني ومنك وقع بينهم الحسد ولم يقصدوه، وهذا اسمه حسد الإعجاب، ففي السنة: (أن رجلاً من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام كان يغتسل، وكان بدنه أبيض، فلما نظر إليه صاحبه سر ببدنه فقال: ما أبيض بدنه! وأجمل لحمه! -أو شيء من هذا- فأصابته هذه العين فوراً، فاحمر بدنه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الحاسد أن يغتسل من الماء ويؤتى بهذا الماء ليغتسل منه المحسود، فشفى الله تعالى المحسود).
فالحسد يقع من الرجل بالإعجاب قصده أو لم يقصده، فإذا قصد الحسد فهو خبيث النفس، وإذا لم يقصده فهو ما يسمى عند العلماء بحسد الإعجاب، وحسد الإعجاب هو أن الناظر يرى الشيء رؤية إعجاب أو استعظام فتتكيف روحه بكيفية خاصة تؤثر في ذلك المتعجب منه.
والشياطين تعين الحاسد والساحر، ولكن الحاسد تعينه بلا استدعاء منه لهم، وهذا فارق بين الحسد والسحر، والساحر يستدعي الشياطين، ويطلب منهم أن يعينوه، وربما طلب الشيطان من الساحر أن يعبده أولاً قبل أن يقضي له حاجته، وينفذ الساحر للشيطان طلبته، وقد قرن الحق تبارك وتعالى في سورة الفلق بين الاستعاذة من شر الحسد وشر الساحر في قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:1 - 5]، والاستعاذة من هذين الشرين تعم كل شر يأتي من شياطين الإنس والجن، فالحسد يكون من شياطين الإنس والجن وكذلك السحر.
وقد دل قوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:5]، على أن للحاسد شراً يؤذي المحسود، فلا يجوز أن يدعي مدع أن الحاسد لا يؤثر في المحسود ولا يضره، وقد رأينا في هذا العصر حيوانات برية وبحرية تقتل غيرها عن طريق أشعة تنبعث من عينها أو جسدها، فلم لا يكون في بعض الناس قوة خاصة تؤذي الآخرين وتضر بهم؟