أما تعريف السحر في اصطلاح العلماء: فقد عرفنا من قبل أن لكل مصطلح تعريفاً لغوياً، وتعريفاً اصطلاحياً، فإذا أردنا مثلاً أن نعرف السنة قلنا: السنة في اللغة هي الطريقة سواء كانت هذه الطريقة محمودة أو مذمومة، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً)، فالسنة في اللغة تختلف عن السنة في الاصطلاح؛ لأن السنة عند الأصوليين لها معنى، وعند الفقهاء لها معنى، وعند المحدثين لها معنى، وغير ذلك.
فإذا قلنا: السحر في لغة العرب: هو كل شيء خفي سببه، ودق، ولطف، فلا بد أن يشترك المعنى اللغوي مع المعنى الاصطلاحي الذي وضعه العلماء، وهو الذي يعرف عند أهل الاصطلاح بالحد، والحد هو التعريف، وربما يكون بين كلمة الحد والتعريف فروق لكن اصطلح أهل العلم على أن حد الشيء هو تعريفه، والعلماء يشترطون في كل حد شرطين: الأول: أن يكون جامعاً، والشرط الثاني: أن يكون مانعاً، أما الجامع فهو: الجامع لأوصاف، وأركان، وشروط التعريف، وسمي جامعاً لأنه جمع جميع الأوصاف والشروط والأركان المتعلقة بهذا المصطلح، واشترط أن يكون مانعاً حتى لا يدخل غير المعرف أو المحدود في هذا الحد، فمثلاً: الصاحب في اللغة: هو من طالت ملازمته لصاحبه، وفلان صاحبي يختلف عن فلان رفيقي، والرفيق يطلق على رفيق الطريق، أما الصاحب ففيه معنى الملازمة وطول الصحبة، لكن لشرف النبي صلى الله عليه وسلم فإن من نظر إليه ورآه ولو للحظة تثبت له الصحبة، هذا خاص بالنبي عليه الصلاة والسلام، ولذلك إثبات الصحبة لـ أبي بكر كإثباتها لرجل أتى من البادية فنظر إلى النبي عليه الصلاة والسلام حتى وإن لم يكلمه، أو لرجل عمي أو كان أعمى فحضر مجلس النبي عليه الصلاة والسلام، ثم انطلق أو مات عنه النبي عليه الصلاة والسلام، فتثبت له الصحبة.
فحينئذ إذا أردت أن أضع تعريفاً جامعاً مانعاً -أي: جامعاً للأوصاف، مانعاً من دخول الغير فيه- لمعنى كلمة صاحب، فأقول: الصاحب هو من رأى النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على ذلك، وهذا لا يصح أن يكون هو معنى الصاحب، لأنني قلت: الصاحب هو من رأى، وهذا مصطلح لا يطلق إلا على من رأى النبي صلى الله عليه وسلم، فلا شك أننا سنخرج من الصحبة من كان أعمى؛ لأننا قلنا: الصاحب هو من رأى، والأعمى لا يرى، ولو أني قلت: الصاحب هو من لقي فاللقاء يثبت للأعمى والمبصر، فحينئذ يكون هذا التعريف من التعاريف الجامعة المانعة.
ولذلك إذا نظرنا إلى أقوال أهل العلم في تحديد معنى دقيق للسحر نجد أنهم يختلفون اختلافاً بيناً في تحديد معنى السحر، وكل تعريف لا يخلو من نقص؛ إما أنه جامع غير مانع، أو مانع غير جامع، ولن يستقر الأمر على تعريف محدد دقيق مانع جامع لأوصاف السحر وأركانه وشروطه، ومرد ذلك إلى خفاء السحر، وتعلقه بالغيب، وقوة التأثير النفسية له، فلما كان هذا من الأمور الغيبية الدقيقة اختلفت أقوال أهل العلم في وضع تعريف جامع مانع لمعنى السحر، لكنهم على أية حال ذكروا أوصافاً وشروطاً، هذه الأوصاف والشروط، وتلك العلامات والأمارات لو عرفناها لكان ذلك مغنياً لنا عن هذه الطاحونة في التعاريف التي ذكرها العلماء.
فمثلاً: الجصاص رحمه الله يقول: السحر اسم لكل أمر خفي سببه، وتخيل على غير حقيقته، وجرى مجرى التمويه والخداع.
وبلا شك أن هذا التعريف يحتاج إلى نقد؛ لأننا لو أنزلنا هذا التعريف على قوله عليه الصلاة والسلام: (إن من البيان لسحراً) فلن يستقيم هذا، وغير ذلك من التعاريف، كـ الفخر الرازي، وكذلك ابن خلدون، وغير واحد ممن عرف السحر.
ويقول الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: سحر الأدوية والتدخين ونحوه ليس بسحر، إن سمي سحراً فعلى سبيل المجاز، كتسمية القول البليغ والنميمة سحراً، ولكنه حرام لمضرته، يعزر من يفعله تعزيراً بليغاً.
وهذا أيضاً لا يستقيم أن يكون تعريفاً لمعنى السحر.
وكذلك يقول سيد قطب رحمه الله في تعريفه للسحر: إن السحر خداع الحواس، قال تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66]، أي: لما نظر موسى عليه السلام إلى عصي السحرة لما ألقوها فخيل إليه أنها حيات تسعى، وهذا بلا شك تخيل، وتمويه، وخداع للعين، والعين حاسة، فقال: إن السحر خداع الحواس، وخداع الأعصاب، والإيحاء إلى النفوس والمشاعر، وهو لا يغير من طبيعة الأشياء، وقد قلنا في الدرس الماضي: من السحر ما يغير طبيعة الأشياء، ومنه ما لا يغير طبيعة الأشياء.
قال: ولا ينشأ حقيقة جديدة لها، ولكنه يخيل للحواس والمشاعر بما يريده الساحر.
أما الذين ذهبوا إلى أن للسحر حقيقة فقد عرفوه بمثل ما عرفه به ابن خلدون، فقال: السحر علوم بكيفية