إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
الكلام عن السحر في باب واحد موجود في أصول الاعتقاد، وقد فرغنا منه، وإن كنت قد وعدت بشيء من التعريج على بعض المسائل المتعلقة بالسحر، وعلقت هناك على الواقع المر الأليم الذي تمر به الصحوة من تصدي كثير من الجهال لما يتعلق بهذا العالم الغيبي، كنت قد وعدت من قبل الكلام عن ذلك، فلما تكلمت كأني خرجت من وعدي في الكلام، ولكني فوجئت برجل يسلم لي في مسجد العزيز بالله ورقة فيها إعلان عن السحر، قال فيه: الشيخ أبو الأشبال أرسل إلي بهذه الورقة لتعلن عنها.
قلت: أنت تعرف أبو الأشبال؟ قال: نعم.
أنا أعرفه وهو الذي سلمني هذه الورقة، وهو يرجوك أن تعلن عنها.
قلت له: يا أخي أنا أبو الأشبال.
وأنا والله! لأول مرة آخذ خبراً بهذه الورقة، فضلاً أني سلمتك إياها.
وسأذكر لك قصة يحيى بن معين وأحمد بن حنبل، فإنه يروى عن أحد الوضاعين -أي: الكذابين في الحديث- أنه ظل يحدث الناس ليلة كاملة، وهو يقول في حديثه: حدثني أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، وكان أحمد ويحيى في المسجد، فلما فرغ الرجل القاص من قصصه، استدعاه أحمد ويحيى فقالا له: أتعرف أحمد ويحيى؟ قال: نعم.
أعرفهما، ومن لا يعرفهما؟! قال ابن معين: أما أنا فـ يحيى بن معين وأما هذا فـ أحمد بن حنبل، وأما أنا فلم أحدثك بهذا، أحدثته بهذا يا أحمد؟ قال: لا.
فقال الرجل متعجباً ومندهشاً من كلامهما: ما رأيت أحمق منكما، أتظنان أنه ليس في الدنيا إلا أنتما أحمد بن حنبل ويحيى بن معين؟! لقد حدثت عن مائة أحمد بن حنبل ويحيى بن معين.
فهذا يزعم أني سلمته الورقة، فاستوثقت منه، وهو الذي سلمني الورقة، وأنا لم أسلمه الورقة، لكني أجد نفسي مضطراً للرجوع إلى وعدي الأول للتعليق على بعض المسائل المتعلقة بالسحر: فنبدأ بتعريف السحر لغة، واللغة إنما وضعت تعريفاً محدداً، إما في لغة العرب، وإما معنى لمعنى السحر، هذا التعريف يدور حول أن السحر في لغة العرب يطلق على كل شيء خفي سببه، ولطف، ودق.
يعني: شيء خفي، غامض، لكنه قائم على السبب، ولذلك تقول العرب في الشيء الشديد الخفاء: أخفى من السحر، وتصف ملاحة العينين بالسحر، يقال: فلان عيناه كالسحر، أو لما نظر إلي سحرني، أبهرني ببريق عينيه، أو بنظرته إلي؛ لأنها تصيب القلوب بسهامها في خفاء، كما يوصف البيان بالسحر، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (إن من البيان لسحراً)، وإنما كان بعض البيان سحراً؛ لأنه يروق للسامعين، ويحلو لهم، ويستميل قلوبهم، ويغلب على نفوسهم، ويحول الشيء عن حقيقته، ويصرفه عن وجهته.
والسحور وهو الطعام آخر الليل، سمي سحوراً لأنه يقع خفياً آخر الليل، بعيداً عن أعين الناس.
والرئة وهي محل الغذاء، وسميت بذلك لخفائها ولطف مجاريها إلى أجزاء البدن.
وتطلق العرب السحر على الخديعة، والمكر، والتمويه؛ لأنه يخفى سببها ويدق، ومنه قول لبيد: فإن تسألينا فيم نحن فإننا عصافير في هذا الأنام المسحر فمعنى السحر في لغة العرب: هو الشيء الذي دق سببه وخفي ولطف، بحيث لا يدرك.
امرأة نظرت إليك فسحرتك، بحيث إن قلبك يكاد أن ينخلع من مكانه؛ لمجرد أنها نظرت إليك.
فتقول: هذه المرأة سحرتني، في حين أنها ليست ساحرة ولكن نظرتها إليك فيها معان خفية جعلت قلبك ينخلع من مكانه، فأنت تعبر عن هذا الشيء الخفي بالسحر في حين أنها ليست ساحرة على الحقيقة.
وكذلك الأداء أو البيان، البيان في أصل الكلمة، أو في كيفية إخراج الألفاظ والجمل، فالذي يسمع الشيخ محمد صديق المنشاوي ليس كالذي يسمع غيره، وأظن أن من ألف وأدمن سماع الشيخ المنشاوي لا يمكن أبداً أن يستغني عنه، ولا يمكن كذلك أن يشبع منه، فالقرآن كذلك له سحر في القلوب، ولذلك الأمر يختلف تماماً بين أن تسمع آية من كلام الله وأن تسمع معنى هذه الآية، فمعنى الآية ربما يمر عليك بغير تأثير، بخلاف أن تسمع كلام الله عز وجل فله تأثير خفي في القلب ربما جاز لك أن تعبر عن هذا المعنى بالسحر، وليس سحراً لكنك لا تملك إلا أن تعبر أن القرآن له تأثير عظيم في القلب، هذا التأثير تعبر عنه مرة بالتأثير، ومرة بالسحر (إن من البيان لسحراً)، وكلام الله عز وجل في قمة البيان وا