إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن أرواح المؤمنين في حواصل طير خضر تعلق في شجر الجنة، حتى يردها الله عز وجل إلى أجسادهم].
كأن الإمام اللالكائي رحمه الله يقطع أن أرواح المؤمنين في حواصل طير خضر في الجنة، وأن الله تعالى يردها إلى أجسادهم حين بعثهم، كأنه بهذا قد رجح هذا الرأي؛ لأن مسألة أين تكون الأرواح إذا ماتت الأجساد مسألة محل نزاع عظيم جداً بين أهل العلم، فاختياره لهذا التبويب إنما هو بمثابة الترجيح لهذا الرأي.
وحقيقة هو الرأي الراجح، فالمؤمن إذا مات كانت روحه في حواصل طير خضر تأكل من ثمار الجنة وأشجارها، حتى يردها الله عز وجل إلى أجساد أصحابها.
والإمام هنا قد ذكر بعض النصوص التي تشهد لصحة قوله، وفاته كذلك أن يورد نصوصاً صحيحة بل هي أصح مما أورده في هذا الباب، وأظن أن النصوص الأخرى لم تقع إليه بسنده؛ ولذلك ما استطاع أن يوردها هنا.
قال: [عن عبد الرحمن بن كعب -وهو ابن كعب بن مالك - عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنما نسمة المؤمن -أي: روح المؤمن- طير)، وفي حديث مالك: (طائر يعلق في شجر الجنة، حتى يُرجعه الله في جسده يوم يبعثه)، وفي حديث مالك: (إلى جسده).
قوله: (إنما نسمة المؤمن) أي: روح المؤمن كالطائر، أو هي نفسها الطائر، على خلاف بين أهل العلم في تأويل هذا الحديث.
قال: (طائر يعلق في شجر الجنة) ومعنى يعلق: يأكل، فقال: (طائر أو كالطائر) فإما أن تكون روح المؤمن هي الطائر أو أنها كالطائر الذي يحلق في السماء، ولكنها تحلق في الجنة، فتأكل من أشجارها حتى يردها الله عز وجل في جسد صاحبها يوم يبعثه.
ومن نفس الطريق قال كعب بن مالك: [لما حضرت كعباً الوفاة أتته أم مبشر بنت البراء بن معرور فقالت: يا أبا عبد الرحمن! إن لقيت ابني فلاناً فأقرئه مني السلام].
وهذا تفريع عن الأصل الذي نحن بصدده وهو: هل تتلاقى أرواح المؤمنين إذا ماتت أجسادهم؟ يعني: إذا مات المؤمن ثم مات المؤمن هل تلتقي أرواحهما؟ بلا شك أن كلام أم مبشر هنا يوحي بذلك.
[فقالت: يا أبا عبد الرحمن! إن لقيت ابني فلاناً فأقرئه مني السلام، فقال: غفر الله لك يا أم مبشر! نحن أشغل من ذلك].
أي: أنا في شغل عظيم وكرب كبير، لا يفيق أحدنا لصاحبه حتى يبلغه السلام من فلان أو فلانة.
[فقالت: يا أبا عبد الرحمن! أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أرواح المؤمنين في طير خضر تعلق في شجر الجنة)؟ قال: بلى.
قالت: فهو ذاك].
أي: التقاء أرواح المؤمنين في حواصل طير خضر في الجنة.
[عن أبي موسى قال: (تخرج روح المؤمن وهي أطيب من المسك، فتعرج به الملائكة الذين يتوفونه، فتلقاهم ملائكة دون السماء -قبل السماء الأولى- فيقولون: من هذا الذي جئتم به؟ فتقول الملائكة: توجوه هذا فلان ابن فلان، كان يعمل كيت وكيت لأحسن عمل له.
قال: فيقولون: حياكم الله وحيا ما جئتم به.
فتقول الملائكة الذي يصعد فيه قوله وعمله، فيصعد به إلى ربه حتى يأتي ربه عز وجل وله برهان مثل الشمس)].
وهذه روح المؤمن.
[(وروح الكافر أنتن من الجيفة، وهو بوادي حضرموت)]، وهذا أحد الأقوال.
أين توجد أرواح الكفار؟ إذا اتفقنا أن أرواح المؤمنين في حواصل طير خضر في الجنة تأكل من ثمارها وأشجارها حتى يبعث الله أجسادها، فأين أرواح الكافرين؟ أحد الآراء أنها بواد في حضرموت، [(ثم أسفل الثرى من سبع أرضين)]، وهذا رأي ثان.
أي: أن بعضهم قال: إن أرواح الكافرين في واد بحضرموت -أي: باليمن- والرأي الثاني يقول: أنها في أسفل سافلين، ويستشهد على ذلك بآيات وأحاديث ضعيفة.
وعن ابن عباس قال: [(إن أرواح الشهداء تجول في أجواف طير تعلق في ثمار الجنة)]، لكن بعض أهل العلم ينازع في أرواح الشهداء وفي أرواح عامة المؤمنين، فيقول: الشهداء لهم خاصية تزيد على خواص عامة المسلمين.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: [(أرواح آل فرعون -أي: أرواح الكافرين- في أجواف طير سود يُعرضون على النار كل يوم مرتين، يقال لهم: هذه داركم.
وهذا قول الله عز وجل: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا