قال: [عن سفيان الثوري قال: سمعت عباد بن كثير يقول: استتيب أبو حنيفة مرتين، قال مرة: لو أن رجلاً قال: أشهد أن لله بيتاً إلا أني لا أدري أهو هذا أو بيت بخراسان كان عندي مؤمناً].
وهذا صريح في كتاب المجروحين لـ ابن حبان بلفظ: استتيب أبو حنيفة من الكفر مرتين.
هكذا ورد النص.
وأبو حنيفة عند الإطلاق هو الإمام العلم المشهور النعمان بن ثابت الكوفي، وهو معاصر لـ سفيان الثوري وعباد بن كثير، وكلهم من بلد واحد، وكان بينهم من الإحن ما بينهم، فقد كان أبو حنيفة إمام الرأي، وكان سفيان الثوري وعباد بن كثير رأسان في السنة، وأنتم تعلمون أنهم بشر، والقاعدة عند أهل العلم: كلام الأقران بعضهم في بعض يطوى ولا يروى، ولو أصغينا لكلام كل قرين في قرينه لم يسلم لنا أحد لا من السلف ولا من خلف.
وأما قول عباد: استتيب أبو حنيفة من الكفر مرتين، فهذا فيه نظر من جهة السند ومن جهة النظر، ولو صح هذا الأمر في حق أبي حنيفة لكان مشهوراً جداً شهرة النار على العلم، أو شهرة الشمس في رابعة النهار، ولا يتصور أن أمراً خطيراً كهذا يروى بإسناد واحد ومن طريق واحد، وأي عمل أوقع أبا حنيفة في الكفر؟ وأنا ما كنت أحب دراسة هذا الباب، لكني خشيت أن يفهم فهماً مغلوطاً معكوساً فأحببت التعريج والتعليق عليه.
فأما التعليق فأحيل إلى الكتاب الجليل العظيم لشيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله رفع الملام عن الأئمة الأعلام، وذكر منهم أبا حنيفة رضي الله عنه ورحمه.
فـ أبو حنيفة وقع حقيقة في شيء من الإرجاء، ولكنه لم يكن داعية إليه، وليس هو الذي ابتدع الإرجاء، وإنما قال بقول المرجئة أحياناً، ولم يتبن مذهب الإرجاء في كل قضية من قضايا الإيمان، وإنما زلت قدمه في بعض القضايا فوافق فيها المرجئة، فهذه المسائل تعاب عليه وترد، ولا ننفي أن الأصل فيه الاستقامة والصلاح من جهة العلم والعمل، وكان داعية إلى السنة وإن خفيت عليه في بعض الأحيان، وأما كونه استتيب من الكفر مرتين، يعني: أنه حبس في بيت ثلاثة أيام في كل مرة، ويقال له: إما أن ترجع عن هذا الكفر الذي تقوله أو نقتلك، فما وجد بداً إلا أن يرجع مخافة القتل، فهذا كلام بعيد جداً أن يصدر من إمام من أئمة الهدى كـ أبي حنيفة رحمه الله تعالى، ولا يتصور أن أبا حنيفة يقول: أشهد أن لله بيتاً، لكني لا أدري أهو الذي بمكة أو بيت آخر بخراسان، لا من جهة النظر ولا من جهة العقل، وقد ثبت أن أبا حنيفة حج مراراً، فلم يحج إلى خراسان ولا مرة يبحث عن البيت هناك، بل كان حجه مع المسلمين إلى بيت الله الحرام.
قال: [ولو أن رجلاً قال: أشهد أن محمداً رسول الله إلا أني لا أدري أهو الذي بالمدينة أو رجل كان بخراسان، كان عندي مؤمناً].
وهذا لا يتصور عنه كذلك كما لا يتصور الأول.
قال: [وقال حمزة بن الحارث عن أبيه: سمعت رجلاً سأل أبا حنيفة في المسجد الحرام عن رجل قال: أشهد أن الكعبة حق، ولكني لا أدري هي هذه أم لا، فقال: مؤمن حقاً.
وسأله رجل فقال: أشهد أن محمد بن عبد الله نبي، لكن لا أدري هو الذي قبره بالمدينة أم لا، قال: مؤمن حقاً.
قال حنبل: قال الحميدي: من قال هذا فقد كفر، وسمعت أحمد بن حنبل يقول: من قال هذا فقد كفر].
وهذا صحيح عن أحمد.
ولكنهم لم يكفروا أبا حنيفة، وإنما قالوا: من قال هذا.
وفي ثبوت هذا عن أبي حنيفة أكبر النظر من جهة الإسناد ومن جهة النظر كذلك في حال أبي حنيفة وفي عمله.
فمن قال: إن لله كعبة لكني لا أدري أهي التي في مكة أم في غيرها، ومن قال: إن الله أرسل محمداً نبياً، ولكني لا أدري أهو الذي قبره بالمدينة أم غير ذلك، ومن قال: إن الله افترض خمس صلوات في اليوم والليلة، ولكني لا أدري أهي الصلاة التي يصليها الناس أو غيرها، ومن قال: إن الله افترض زكاة في أموال الأغنياء ترد إلى فقرائهم، ولكني لا أدري ما كنه هذه الزكاة وما مقدارها وعددها، وغير ذلك على سبيل التنكر فإنه لا يكون مؤمناً، ولم يكن أبو حنيفة من هذا الصنف.
قال: [قال أبو إسحاق الفزاري: قال أبو حنيفة: إيمان أبي بكر وإيمان إبليس واحد].
وهذا لا يمكن أن يقوله أحد من أجهل جهلة المسلمين، بل لو سئل كافر يهودي عن هذا الكلام لأنكره، وقال: لا يعقل هذا، مع أن اليهود يكرهون جبريل؛ لأنه صاحب الوحي، وعداؤهم لجبريل لا ينتهي، وقد بين الله تعالى عداءهم له عليه السلام في سورة البقرة وفي غيرها من السور، حتى هم نفس