من أهمية الصلح أن الله تعالى أباح فيه الكذب للمصلحة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يصلح الكذب إلا في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل زوجته وحديث المرأة زوجها) فأباح الكذب إذا أراد الإنسان أن يصلح بين اثنين، فيأتي إلى هذا ويقول له: إن صاحبك يريد الخير ويريد الصلح، وإنه قد ندم على ما فعل، وإنه محب لأن تأتلف القلوب وأن تتبدل البغضاء بالمودة والمحبة، وإنه قد تنازل عن بعض حقه.
ثم يأتي إلى الثاني ويرغبه أيضاً في الصلح، ويقول له مثل ذلك حتى يتقاربا ويصطلحا وتزول بينهما العداوة، وكل هذا من حيث العموم.
والباب هذا معقود للصلح في الأموال، والغالب أنه يحصل بسببها نزاع وشقاق، ويحصل بسببها بغضاء وشنآن وتهاجر، وقد يدوم الهجران مدة طويلة، فقد يتهاجر الإخوان أو الأقارب ويبقون متهاجرين أشهراً أو سنين، مع أن الأصل في ذلك أمور دنيوية لا تساوي هذا التهاجر، فالواجب أن يصلحا بينهما، وأن يسعى ذوو الوجاهة للصلح بينهما، ولو تحملوا أموالاً لهؤلاء أو لهؤلاء، كما في حديث قبيصة بن مخارق لما تحمل حمالة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستعينه فقال: (يا قبيصة! إن المسألة لا تحل إلا لثلاثة: رجل تحمل حمالة) يعني أن قبيصة وجد قبيلتين بينهما عداوة وبينهما قتال أو ما يقرب من القتال، فجاء إلى هؤلاء فقال: ماذا تنقمون؟ فقالوا: إنهم أخذوا مالنا، وإنهم قتلوا منا كذا وكذا.
فقال: أنا أتحمل ما أخذوه من المال، وأنا أتحمل الديات التي تدعونها عليهم.
ثم جاء إلى الآخرين فقال لهم: ماذا تنقمون؟ فقالوا: إنهم نهبوا منا، وإنهم جرحوا، وإنهم قتلوا.
فيقول: أنا أتحمل ما تدعون به.
فهذا الذي تحمل لهؤلاء ولهؤلاء يحل له أن يأخذ من الزكاة ويدخل في الغارمين، وما ذاك إلا أنه مصلح ومحسن: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة:91] ، ولو كلف أن يدفع من ماله لأجحف ذلك به، فلذلك جعل له حق في الزكاة، وهو أحق الغارمين؛ لأن الغارمين قسمان: غارم لإصلاح ذات البين، وغارم لنفسه، أي: مدين لحاجات نفسه الضرورية.
فقدم الغارم لإصلاح ذات البين، وجعل له حقاً في الزكاة المفروضة.
والباب الذي عندنا هنا في الصلح في الأموال، وأما الصلح في الدماء فذكروه في كتاب القصاص، فالصلح في الأموال قسمان: صلح على إقرار، وصلح إلى إنكار.