النوع الرابع: خيار التدليس.
والتدليس: هو إظهار السلعة بمظهر غير ما هي عليه، كتسويد شعر الجارية وتجعيده، وجمع ماء الرحى وإرساله عند عرضها، والمصراة التي جمع لبنها في ضرعها، كل هذا يسمى تدليساً، وهذا يعتبر غشاً، حيث أظهر السلعة بمظهر حسن وباطنها غير حسن، وهذا يحدث كثيراً، وهو داخل في الغش، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على بائع بر، فأدخل يده فيه فأصابت بللاً، فقال: (ما هذا يا صاحب الطعام؟! قال: أصابته السماء -يعني: المطر-.
قال: هلا جعلته أعلاه كي يراه الناس، من غش فليس مني) فاعتبر هذا غشاً، وكان عليه أن يجعل العيب ظاهراً، لكنه جعل المتندي والرطب باطناً، فإذا جاء يكيل أدخل الصاع حتى يأخذ من ذلك الرطب ويجعله في المكيال، ولا يتفطن المشتري، وهذا يعتبر غشاً وتدليساً.
وكذلك -مثلاً- إذا جعل أعلى الزنبيل شيئاً جيداً من القهوة أو من الهيل، وأسفله رديئاً، فيعتبر هذا غشاً؛ لأنه إذا جاءه الجاهل أخذ له من الأسفل ليخلطه ويلتبس عليه، وكذلك بائع اللحم الذي يبيع بالوزن، إذا أظهر اللحم الأحمر أمام المشتري، وأخفى عنه العظم أو العصب، وإذا جاء ليزن أخذه وجعله في الأسفل، ولا شك أن هذا يعتبر -أيضاً- تدليساً، وكل هذا واقع كثيراً.
مررت مرة ببعض الذين يبيعون الأعلاف، وإذا عنده أعلاف قد بقيت خمسة أيام، وقد يبس أعلاها، أما وسطها فإنه لا يزال ندياً، فإذا هو يحل الخيط عنها، ثم يأخذ اليابس والذابل ويجعله في الوسط، ثم يجعل الشيء الندي الذي لا يزال رطباً ندياً في الأعلى، فنصحته وقلت: هذا غش.
فقال: ما هذا غش، هذا أمام البائع وأمام المشتري.
فقلت: إن المشتري لا ينظر إلا إلى هذا الظاهر، ويعتقد أنه جميعاً سواء.
فقال: هذا كله أمامه، ثم قال: إن هذا المشلح الذي عليك إذا تحسست أسفله، فإنك تفك خياطته التي في الوسط وتجعل الأسفل في الوسط، أليس هذا غشاً؟ فقلت: ليس كذلك، ذلك لأنه ظاهر، والذي يشتري لابد أن يقلبه ويعرف أنه قد رد أسفله إلى أعلاه، بخلاف هذا.
فينبغي التنبه لمثل هؤلاء، ومنهم الذين يبيعون الفواكه والخضروات كالطماطم، فيجعلون الأعلى صالحاً، وكذلك الذين يبيعون التفاح أو نحوه، يجعلون أعلاه صالحاً، وأسفله رديئاً إذا كان في صناديق أو في كراتين، وهكذا باعة الرطب وما أشبهها، ولا شك أن هذا داخل في الغش، فإذا تبين أنه قد دلس عليه فإن له الخيار.
والفقهاء مثلوا للتدليس بتسويد شعر الجارية، فإذا كان يبيع جارية -يعني: أمة- قد ابيض شعرها من الكبر، فيسوده حتى يتوهم الذي يشتريها أنها شابة، وهذا غش، أو يجعده، والتجعيد: هو أن تعالج كل شعرة إلى أن تنعقد على أصلها، والشعر الجعد هو المتعقد، وهذا يوهم أنها شابة أو نحو ذلك.
كذلك جمع ماء الرحى وإرساله عند عرضها، والرحى حجر يركب على حجر، ويجعل القمح في وسطه حتى تدور وتطحنه، والذي يدور بها هو الماء، ويجعلون في هذه الرحى خروقاً، خرق في خشبة مثل اللوح، وخرق أمامها في خشبة كاللوح وهكذا، وهذه الألواح أطرافها في وسط الماء الذي يمر، فالماء يمر ويدفع هذا اللوح، فإذا دفع شيئاً استدارت الرحى قدر شبر، ثم جاء اللوح الذي بعده فدفعه الماء، فاستدارت قدر شبر، إلى أن تستدير، فإذا كان جري الماء جيداً فإن استدارتها تكون بسرعة، فتدور الرحى بسرعة، فيجمعون الماء -مثلاً- في خزان، ثم إذا عرضوها للبيع أطلقوا الماء بقوة، فإذا رآها المشتري تدور بسرعة يزيد في الثمن، ويعتقد أن هذه عادتها، هكذا مثلوا بهذه الأمثلة.
وعلى كل حال: لا شك أن هذا كله غش، والغش كثير، وأنواعه متكاثرة.