القسم الأول: خيار المجلس، أي: مكان موضع العقد، سواء كانا جالسين أو واقفين أو راكبين أو ماشيين، ما داما مجتمعين فإن الخيار ثابت لكل منهما، ودليله: قوله صلى الله عليه وسلم: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعاً، أو يخير أحدهما صاحبه، فإن خير أحدهما صاحبه فقد وجب البيع، وإن تفرقا بعد أن تبايعا فقد وجب البيع) فسبب ذلك: أنك -مثلاً- قد تشتري السلعة، ثم يتبين لك أنها عندك، فتقول: لم يحصل تفرق، خذ سلعتك ورد دراهمي.
أو -مثلاً- تبيع السلعة، ثم يتبين أنك بحاجة إليها، فتقول: رد علي سلعتي وخذ دراهمك؛ فإني لا أستغني عنها؛ فهذا سبب شرعية خيار المجلس، وهذا مما جاء به الشرع، ولم يكن معروفاً قبل الإسلام، إلا أنهم كانوا إذا تبايعوا وتعاقدوا فإنه قد يندم أحدهما ويطلب الإقالة، فالحاصل أن في هذا دليلاً على شرعية هذا النوع.
وكذلك في كل عقد من العقود التي بمعنى البيع، مثاله: إذا جئت بجنيه، وطلبت من الصيرفي تحويله إلى دراهم، فقال: أشتريه منك بخمسمائة وخمسين، ثم سلم لك القيمة واستلم الجنيه، ثم تذكرت أنه لابد أن يشتريه بستمائة، فندمت وقلت: رد علي جنيهاتي وخذ دراهمك، نحن لا نزال في المجلس.
فيلزم بأن يرده عليك.
وكذلك الإجارة: لو استأجرت من المكتب داراً بعشرة آلاف لمدة سنة أو نصفها، وبعدما سلم لك المفاتيح، وقبل أن تتفرقا، وقد أعطيته الأجرة أو نصفها تذكرت أنك مغلوب، وأنه يوجد عند فلان أرخص منها، وأنها لا تساوي إلا ثمانية، فندمت وقلت: رد علي دراهمي وخذ مفاتيح دارك، لا حاجة لي فيها، فهذا يصح.
وهكذا -أيضاً- العكس: لو أن صاحب الجنيه ندم، وقال: أنا اشتريت منك الجنيه بخمسمائة وخمسين، وأنا أعرف أنه غالٍ، لا أريده، رد علي دراهمي، أو أنا بحاجة إلى دراهمي ولا حاجة لي في هذا الجنيه، وكذا صاحب البيت إذا أجرك بعشرة، ثم بعد ذلك تذكر أنه يساوي اثني عشر، فقال: ندمت، لا أؤجره بهذا، رد علي مفاتيحي وخذ دراهمك، فمن ندم بعدما تم العقد، ورد في المجلس؛ فإنه يجوز ذلك.
وهكذا في الرهن، وفي السلم، وفي الشركات، وفي الصلح الذي هو بمعنى البيع وما أشبهها.
هذا النوع يسمى: خيار المجلس، ومتى يحصل لزوم البيع؟ بالتفرق بالأبدان، بأن يتفرقا، فإذا اشترى -مثلاً- الكيس، وحمله على سيارته، ثم ركب سيارته ومشى -مثلاً- عشرة أمتار، ثم ندم ورجع وقال: خذ كيسك.
لزم البيع، ولا يتمكن من إرجاعه؛ وذلك لأنه قد حصل التفرق، وكذلك لو ندم البائع بعدما ركب المشتري سيارته ومشى عشرة أمتار أو نحوها فأدركه أو اتصل به هاتفياً وقال: ندمت، رد لي أكياسي.
لا يصح، وقد وجب البيع، فالتفرق هو التفرق بالأبدان، هذا هو الصحيح، وخالف في ذلك المالكية والأحناف، وتكلفوا في رد هذا الحديث، فالإمام مالك رده لأنه مخالف لعمل أهل المدينة، وقال: لا أعرف أحداً يعمل به في المدينة من مشايخنا.
وقد خالفه كثير من العلماء في زمانه وبعده، وذكر ابن عزيز أنه حديث مشهور، وأنه معروف معمول به في البلد، وابن عزيز من علماء قريش من أهل المدينة، فعرف بذلك أن القول بكونه مخالفاً لعمل أهل المدينة غير صحيح، وأتباع مالك الذين قلدوه تمسكوا بأنه ليس هناك خيار مجلس، وتكلفوا في صرف الحديث عن ظاهره، فقالوا: المراد بالتفرق التفرق بالأقوال.
ولا شك أن هذا خلاف الواقع، وذلك لأنهما قبل الأقوال لا يسميان متبايعين، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (البيعان) فقبل أن يقول: بعني، وقبل أن يقول: بعتك، هل يسميان بيعان؟! لا، فهذا صرف للفظ عن ظاهره، وكذلك الأحناف أعذارهم لرد هذا الحديث غير سديدة، ولا عذر عن العمل بهذا الحديث.