الكسوة الواجبة هي مرة أو كل سنة

ذكر بعد ذلك الكسوة، يقول: (ولها الكسوة كل عام مرة في أوله) .

هكذا كان في الأزمنة المتقدمة، إذا دخلت السنة اشترى لها كسوة، يشتري لها مثلاً قميصاً وسراويل، وخماراً وعباءةً، ورداءً وجلباباً، فيشتري مرة واحدة، ويكفيها سنة، هذه كانت عادتهم، وكذلك أيضاً كانت عادة الرجال، نحن قبل خمسين أو ستين سنة يبقى الثوب والقميص علينا سنة أو عشرة أشهر، ولا نغسله إلا بالماء في كل أسبوع أو كل أسبوعين، وإذا غسله أحدنا يبقى ليس عليه إلا إزار إلى أن يجف الثوب ثم يلبسه، وهكذا أيضاً كانت النساء ليس عندها إلا ثوب واحد، إذا انتهت السنة وإذا هو قد بلي، وإذا تشقق في أثناء السنة تخيطه، وترقع وسطه إذا احتاج إلى رقعة، ترقعه من ثياب السنة الماضية.

وتلك الثياب أيضاً ثياب تنسج في البلاد العربية، لا يستوردونها من البلاد البعيدة، وهي أيضاً رخيصة، كانوا يبيعونه بالذراع الذي هو أربعة وخمسون سنتيمتراً، الذراع بنصف الريال، أو الذراعان بريال ونصف، وبعض الأقمشة يقدر أن المتر بريال، وقد يكون بأقل في بعض الأقمشة، فتكون كسوتها تكلفها عشرة ريالات، وربما خمسة ريالات في بعض الأقمشة، وتكفيها سنة، وإذا كانت مترفهة اشترت كسوتين، كل كسوة بعشرة ريالات، هذه كانت عادة النساء قبل خمسين أو ستين سنة، قبل وجود هذا التوسع.

ولما فتح الله على الناس هذه الأموال، وكذلك انفتح باب الواردات توسعوا، حتى من قبل سنين في بعض البلاد التي فيها توسع، ونحن نحكي حال القرى الذين هم في قلة من العيش، وأما المدن الكبيرة كمكة والرياض ونحوها فإن عند كثير منهم توسعاً.

حتى قبل أربعين أو خمس وأربعين سنة يذكر لنا أحد المشايخ أن كثيراً من النساء عندها ثياب كان لها منذ سنة وسنتين وثلاث سنوات، وكل سنة تشتري زيادة، حتى إن الثوب يكلف في ذلك الوقت خمسمائة ريال، بينما الفقراء يكفيهم عشرة ريالات للثوب، فهؤلاء الذين يتوسعون يصل الثوب إلى خمسمائة، وفي هذه الأزمنة -كما تسمعون- كثير من النساء كسوتها تكلفها ألفاً، وربما ألفين، وربما ثلاثة آلاف، المتر الذي كانوا يشترونه بعشرة أصبح الآن يباع بخمسمائة أو بأربعمائة، لا شك أن هذا التوسع لأجل أن الناس توسعوا في الأموال، وصاروا يحرصون على أن يقتنوا أرفع الأقمشة وأعلاها وأغلاها.

والنساء يتفاخرن في ذلك، الآن المرأة إذا دخلت لتشتري قماشاً رأت القماش الغالي ولو كان رديئاً، والباعة يزيدون عليها، تأتي إلى أحدهم فيقول: هذا المتر بمائة، وهذا المتر بمائتين، وهذا بثلاثمائة، مع أنها كلها سواء، فتقول: أريد من الذي قيمته ثلاثمائة، ولو حدها بخمسمائة أو بستمائة لاشترت مما هو رفيع، ولا شك أن هذا من العبث، وأنه من إضاعة الأموال.

وهذه الإضاعة -أيضاً- وقع بها من قديم كثيرون، ذكر ابن القيم في كتابه "روضة المحبين ونزهة المشتاقين" يتكلم عن الحب الذي يُبتلى به كثير من الناس أو من النساء، يذكر أن رجلاً عشق امرأة لما رأى عليها ثوباً أعجبه نوع القماش، فصار كلما رأى في السوق ثوباً مفصلاً من ذلك النوع الذي رآه على معشوقته اشتراه، حتى لما توفي وإذا عنده أكثر من مائتي ثوب! يدل على أن الناس يشترون ما يناسبهم وما يهوونه.

فإذا كان في هذه الأزمنة فالكسوة على قدر المناسبة، والناس في هذه الأزمنة توسعوا في بعض الكسوة، فالمرأة تفرض على زوجها كسوة في كل مناسبة، ففي كل عيد تطلب كسوة جديدة، كذلك أيضاً في أيام المناسبات كحفلات زواج إخوتها أو أخواتها، تطلب أيضاً كسوة جديدة في كل مناسبة، وإذا قيل لها: عندك كسوة تم شراؤها قريباً.

تقول: إن هذه قد استعملت، أو رئيت يوماً أو نصف يوم.

فتفرض عليه أن يجدد لها كسوة في كل مناسبة، والرجال يتسامحون معهن في ذلك، وكان الأولى المنع والامتناع؛ لأن هذا من الإسراف؛ ولأنه من إيتاء السفهاء، والله تعالى يقول: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء:5] أي: لا تسلطوهم على أموالكم فيفسدونها، فإذا كانت المرأة تشتري الكسوة بألف أو بألفين أو بثلاثة آلاف اعتبر ذلك من السفه والإفساد.

ويقال كذلك أيضاً فيما تحتاجه من الحلي والزينة ونحوها، مثاله: إذا طلبت شراء ساعة يدوية فإنه قد يتنازل معها، وتوجد ساعة -مثلاً- بمائتين، وساعة بألفين، وساعة بعشرة آلاف، فكثير من النساء تشتري أعلى ما تجد، ولو كانت المكانة واحدة، ولو كان الاستعمال واحداً، يخيل إليها أن زيادة الثمن يدل على الحسن والجمال، ويدل على القوة والمناعة وما أشبه ذلك.

وقد أخبرني الكثير من الذين يستوردون الساعات أنها كلها سواء، يعني: أدواتها، وآلاتها الداخلية، لا فرق بين التي قيمتها مائتان والتي قيمتها عشرة آلاف إلا في الاسم والمورد، تؤخذ من الذي يصنعها سواء في اليابان أو في الصين أو في أمريكا، الأدوات واحدة لا تختلف، ومع ذلك الذي يوردها يكتب عليها اسم أنها ساعة كذا وكذا، فإذا خيل إليهم أنها من نوع كذا وكذا ظنوا أن لها مكانة.

الذين يشترون الساعة التي بمائتين، والذين يشترون الساعة التي بألفين أو بخمسة آلاف أو بعشرة، يجدون أن الاستعمال واحد، وأنه لا فرق بين هذه وهذه، قد تكون هذه أسرع خراباً من هذه، فلذلك نقول: الواجب الأخذ على أيدي السفهاء.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015