قوله: (ثم يكبر ويسجد على الأعضاء السبعة، فأول ما يضع على الأرض ركبتيه ثم يديه ثم جبهته وأنفه) ، هذا هو المختار وهو أن يقدم ركبتيه على يديه، وهذا هو الذي تدل عليه السنة النبوية من فعله صلى الله عليه وسلم، والأحاديث الصريحة كحديث وائل بن حجر وأنس وغيرهما: (أنه كان إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه) ، ودل على ذلك أيضاً: أن هذه هي جلسة النشاط، وأن تقديم اليدين جلسة العاجز؛ لأنه معروف أنه إذا قدّم يديه اعتمد عليهما، فيكون ذلك من جلسة المتثاقل العاجز، ومعلوم أن الإنسان إذا دخل في مجلس، وأراد أن يجلس على الأرض وهم جلوسٌ على الأرض، فإنه عادة لا يقدم يديه إلا إذا كان مريضاً أو كان كبير السن فيعتمد على يديه، أما إذا كان نشيطاً فإنه يجلس جلسته العادية ويحني رجليه ويجلس على الأرض، وهذا هو الصحيح.
وقد نصره ابن القيم رحمه الله في كتبه الثلاثة: في زاد المعاد واستوفى الكلام حوله، وفي كتاب الصلاة وأطال فيه، وفي شرحه أو حاشيته على سنن أبي داود لما أتى على الحديث عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه) ، فبين أن هذا الحديث فيه انقلاب، وأن الصواب أن يضع ركبتيه قبل يديه، وبتتبع طرق الحديث وجد أن في الحديث ضعفاً، واضطراباً، وأشار إلى اضطرابه في زاد المعاد، وبيّن الضعف، وكذلك أيضاً في كتاب الصلاة أطال في ذلك ورجح أنه ضعيف.
ثم بيّن أيضاً أن أوله يخالف آخره، فإن البعير يبدأ بيديه قبل رجليه، وأما قولهم: إن ركبة البعير في يده، فهذا غير صحيح، والأصل أن الركبة إنما هي في الرجل في كل شيء، ولو كانت صورة ركبة البعير في يديه صورةً فإنها لا تسمى ركبة بل تسمى كما في اليد مرفقاً.
يعني: يرتفق به، فالبعير مشاهد أنه يقدم يديه قبل رجليه، فإذا قدم إنسان يديه أشبه البعير في بروكه، وهذا هو الصحيح، ثم وردت أيضاً أحاديث تؤيد حديث وائل في أنه يقدم يديه قبل ركبته.
وورد أيضاً حديث أبي هريرة في شرح معاني الآثار للطحاوي، وفي مصنف ابن أبي شيبه، وفيها: (فليضع ركبتيه قبل يديه، ولا يبرك كما يبرك الفحل) ولو كان في الإسناد راوٍ ضعيف لكنه يتقوى ببقية الروايات، وهذا هو القول الصحيح، ولا عبرة بمن رد على ابن القيم وأنكر ما قاله، حتى المحقق الذي حقق زاد المعاد ضعف رأي ابن القيم ولم يجب عن كل الاعتراضات التي ذكرها.
وألف بعض تلامذة الألباني رسالة في تأييد تقديم اليدين بعنوان: (نهي الصحبة عن تقديم الركبة) ولكنه تكلف في رده، وأتى بأدلة لا تنهض له.
وقد ألف فيها الفريح البهلال، الشيخ المعروف في الزلفى، وأيد ابن القيم وانتصر للحق، وبين أن الحديث الذي عن أبي هريرة خطأ ولا دلالة فيه، وأن الحديث الثاني الذي استدلوا به ضعيف، وأنه إنما صح من فعل ابن عمر، وابن عمر فعل ذلك لما كبر سنه، وكان يقدم يديه قبل ركبتيه لعجزه عن ذلك.
وقد بين ذلك أيضاً الشيخ خليل إبراهيم الذي حقق رسالة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الأحاديث، وطبعت مع مجموعة رسائل الشيخ، ورجح ما رجحه ابن القيم، وبين الأدلة الواضحة على ذلك، وذكرنا ذلك أيضاً في تحقيقنا لشرح الزركشي، وبينا الأدلة، هذا هو الذي يترجح لنا، ومن قرأ كلام ابن القيم بإنصاف عرف موافقته، فالحاصل: أنه ذكر أنه يقدم ركبتيه ثم يديه ثم جبهته ثم أنفه.
ويسن كونه على أطراف أصابعه.
يعني: سجوده على أطراف أصابع رجليه، ويجعل رءوسها إلى القبلة، وبطونها إلى الأرض منبسطة، ويجافي عضديه عن جنبيه وبطنه عن فخذه، فلا يلصق عضده بالجنب، بل يفرج إذا استطاع ما لم يضايق الذي إلى جانبه، ويرفع بطنه عن فخذيه ويرفع فخذيه عن ساقيه، ولا يلصق بطنه بفخذيه؛ فإن هذا كأنه غير ساجد، ويفرق بين ركبتيه، وكذلك يفرق بين رجليه فلا يلصقهما، وذلك بأن يجعل بينهما مثلاً نحو شبر، وقد استدل البعض على إلصاق القدمين بحديث عائشة: (فوقعت يدي على رجليه أو على قدميه وهما منصوبتان) .
نقول: هذا لا يدل على أنهما ملتصقتان فإنها قد تمس أصابعها قدماً وأسفل الكف قدماً.
وقد تكون مسحتهما مسحاً وبينهما فاصل فوقعت يدها على الرجل ثم على الرجل مع وجود الفرجة التي بينهما.