قال المصنف رحمه الله: (إذا طلق الحر ثلاثاً أو العبد اثنتين لم تحل له حتى يطأها زوج غيره في قبل بنكاح صحيح، مع انتشار، ويكفي تغييب حشفة ولو لم ينزل، ولو لم يبلغ عشراً، لا في حيض أو نفاس أو إحرام أو صوم فرض أو ردة) ذكرنا أن أهل الجاهلية كانوا يطلقون بدون عدد، يطلقها وإذا شارفت على انقضاء العدة راجعها، ثم يطلقها ثانية، وإذا شارفت على انقضاء العدة راجعها، ثم الثالثة والرابعة والخامسة وهكذا، ولو إلى عشر أو عشرين، فجاء الإسلام بتحديد الثلاث، وأنها بعد الثالثة تحرم عليه، ولا تحل له إلا بعد أن تنكح زوجاً غيره، قال تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة:229] يعني: الطلاق الرجعي، وقال: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة:228] أي: بعد الطلقتين، ثم قال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة:230] يعني: الثالثة: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230] ، فإذا طلقها الحر ثلاثاً حرمت عليه حتى تنكح زوجاً غيره، وإذا طلق العبد اثنتين لم تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، ولابد في ذلك الزوج أن يطأها، ولا يكفي العقد، فلو عقد عليها ولم يدخل بها وطلقها ما حلت للأول، وفسروا قوله تعالى: {حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230] بأن النكاح هو الوطء.
وفي ذلك قصة امرأة رفاعة، جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: (إن رفاعة طلقني وبت طلاقي، وإني تزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير، وإنما معه مثل هدبة الثوب، فقال صلى الله عليه وسلم: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟! لا، حتى تذوقي عسيلته، ويذوق عسيلتك) وعبر بالعسيلة عن الوطء، أي: لذة الوطء، فلا يكون هناك رجعة إلى الزوج الأول، ولا تحل له؛ حتى يذوق الثاني عسيلتها، بمعنى: يطؤها زوج غيره، فلو وطئها في الدبر ما حلت للأول، لابد أن يكون في القُبُل، ولو وطئها في نكاح فاسد لم يكفِ، كما لو تزوجها بغير شهود، أو زوجته بنفسها، فإن هذا أيضاً لا يكفي، حتى ولو دخل بها، ولو بقي عندها مدة؛ لأنا نحكم بأنه نكاح فاسد، لابد أن يكون النكاح الثاني نكاحاً صحيحاً كامل الشروط.
وقوله: (مع انتشار) الانتشار: هو الإنعاظ، أي: قيام الذكر، فلا يكفي أن يباشرها بدون انتشار، ويقول: إني قد جامعتها وأنزلت؛ لأن مجرد المماسة والمباشرة لا تسمى جماعاً.
قوله: (ويكفي تغييب حشفة) يعني: يكفي في الوطء الذي يوجب الغسل تغييب الحشفة في الفرج، أي: تغييب رأس الذكر، تغييب المدورة ولو لم ينزل، فإذا أولج رأس الذكر ولو لم ينزل، واعترف بذلك، واعترفت هي، فإنها تحل للأول إذا طلقها.
ولو كان الزوج الثاني صغيراً دون عشر، يعني تزوجها وعمره تسع سنوات وعشرة أشهر، ولكن يتصور منه الانتشار، ويتصور منه الشهوة، ودخل بها، وأولج فيها رأس ذكره، وطلقها بعد ذلك أو طلقت عليه؛ حلت للزوج الأول.
واستثنوا إذا وطئها وهي حائض، فإن هذا وطء فاسد وحرام، لا يحللها للأول، وكذلك وهي نفساء ثم، بأن طلقها زوجها الأول ثلاثاً، وكانت حاملاً فولدت وانقضت عدتها، وتزوجت زوجاً آخر وهي في النفاس، ودخل بها ووطئها وهي نفساء، ثم طلقها بعده فهل هذا الوطء يبيحها للأول؟ لا يبيحها.
أو وطئها وهي محرمة، وحرام وطء المحرمة، ويجب عليها أو عليه إذا كانا محرمين فدية، حتى لو وطئها بعد التحلل الأول، فإذا أحرم بحج وتحلل، بأن رمى وحلق وبقي عليه الطواف، ووطئ، فإن هذا الوطء محرم؛ لأنه لم يتحلل، فلا يحلها لزوجها الأول لو طلقها بعده.
أو وطئها وهي صائمة في رمضان أو صوم قضاء، فلا يحل له أن يطأها في صيام الفرض، فهذا الوطء لا يحللها لزوجها الأول.
أو في ردة، فالمرتدة لا يصلح أن تكون زوجة للمسلم؛ لأن الردة تفرق بينهما، قال تعالى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة:10] ، وهذه قد كفرت، فإذا تزوجت وهي كافرة مرتدة، ودخل بها الزوج، ثم أسلمت وعادت إلى الإسلام، فهل هذا الوطء يبيحها لزوجها الأول المسلم؟ لا يبيحها؛ وذلك لأنه وطء محرم في حالة لا يبيحها الشرع، لا يبيح لها أن تتزوج مرتداً، ولا يبيح للمسلم أن يتزوج مرتدة.