قال المصنف رحمه الله: (وينفع غير ظالم تأول بيمينه) .
التأويل: هو ما يسمى: بالمعاريض، أو تأويل الكلام بتأويل فيه غرابة، وقد ذكروا أمثلة كثيرة في بعضها غرابة، ولكن يقولون: إن فيها مخرجاً من بعض المآزم، ولا يسمى: كذباً، مثاله: في غزوة بدر لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم وأقبل على بدر لقي رجلاً من المشركين، فسألوه: (ما أخبار قريش وما أخبار محمد؟ فسألهم: ممن أنتم؟ فقالوا: أخبرنا ونخبرك.
فأخبرهم بما سمع عن هؤلاء وهؤلاء، ثم قال: من أنتم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نحن من ماء) يعني: أننا خلقنا من ماء، فظن أن هناك قبيلة يقال لها: (ماءً) وصدقهم، وليس في هذا كذب، ولكن فيه تأويل، فالتأويل ينفع إذا كان المؤول غير ظالم، وأما إذا كان ظالماً فليس له أن يتأول، فمثلاً الإنسان الذي عنده دين أو عنده مال، إذا حلف وقال: والله! ماله عندي شيء، وقال: أردت بذلك ماله عندي، وهو شيء، فصاحب المال يعتبر أن هذا حلف على النفي، ونية الحالف على الإثبات، أي: له عندي شيء.
فمثل هذا يعتبر كذباً، ولا ينفعه هذا التأويل.
وقد كثر التأويل من قبل أهل البدع في كثير من النصوص، واعتبروه أنه نافع، ولكن ليس بنافع لهم؛ لأنهم متأولون ما لا يحل لهم، فأول بعضهم قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] فجعلوا كلمة: (إلى) اسماً لواحد الآلاء التي هي النعم، قالوا: (إلى) -يعني: نعمة- (ربها ناظرة) وهذا تأويل بعيد.
ومثال التأويل الظالم: لو قال: هل رأيت بعيري؟ فقال: والله ما رأيته، مع أنه قد تركه عنده، لماذا حلفت وهو عندك؟ قال: حلفت ما رأيته؛ يعني: ما طعنت رئته، رأيته يعني: طعنته في الرئة وأخرجت رئته، وكذلك لو قال: ما قلبته، وأراد بذلك: ما قطعت قلبه، فإن هذا تأويل باطل إذا كان المؤول ظالماً وكاذباً وسارقاً، ولا ينفعه تأويله، وأما إذا كان غير كاذب وغير ظالم فإنه ينفعه تأويله، وينفعه الكلام الذي قد يفهم منه غير ظاهره، فلا يكون في ذلك كذب.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم بكلمات حق، وقد يفهمها بعض على غير ما هي عليه: (جاء إليه رجل فقال: يا رسول الله! احملني.
فقال: أحملك على ولد الناقة، فقال: لا يطيقني، فقال: والله! لا أحملك إلا على ولد الناقة) وظن أن ولد الناقة هو البكر الصغير (فقيل له: وهل الجمل إلا ولد الناقة؟!) ، إذا حملك على جمل فالجمل ولد الناقة، فهذا من التأويل المباح.
وذكر أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أمر في زوجها، فقال: (زوجك الذي في عينيه بياض؟ فأنكرت ذلك، فقال: بلى) ولما رجعت أخذت تنظر في عيني زوجها، وما فكرت أن المراد بالبياض: البياض الذي بجانب السواد، وكل إنسان في عينيه سواد وبياض.
وكذلك -أيضاً- جاءت امرأة وقالت: يا رسول الله! ادعُ الله أن يدخلني الجنة، وكانت امرأة كبيرة، فقال: (ويحك! إن الجنة لا يدخلها عجوز، فولت تبكي، فقال: ادعوها وأخبروها أنها لا تدخل الجنة وهي عجوز، إن الله يقول: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} [الواقعة:35-36] ) .
فهذه أمثلة من التأويل الذي ينفع.