الوصية التي ذكرت في القرآن هي الوصية بالمال في قول الله تعالى في سورة البقرة: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ * فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:180-182] ، فكان هذا قبل أن تنزل المواريث.
ومعنى (كتب عليكم) : فرض عليكم إذا حضر أحدكم الموت أن يوصي، فيقول: أعطوا أبوي من مالي كذا، أعطوا الوالد كذا، والوالدة كذا، والأخ الفلاني كذا، والأخ الفلاني كذا، والابن كذا، والبنت كذا، هذا معنى قوله: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا) يعني: مالاً (الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ) فالأقربون يدخل فيهم الإخوة ونحوهم.
ولما نزلت آيات المواريث نسخ الإطلاق، فقيدت الوصية بأن تكون لغير الوارث، فجاء في الحديث المشهور قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث) أي: قد بين الله تعالى الحقوق، فلا يصح لأحد أن يوصي للوارث، بل الوارث يكفيه نصيبه من الإرث.
وقد تقدم في الهبة والعطية أنه إذا أعطى في مرض موته فلا تنفذ تلك العطية إلا بعد الموت، ولا تنفذ بعد الموت إلا إذا خرجت من الثلث، وكذلك الوصايا، لا يصح أن يوصي بأكثر من الثلث، ولا يصح أن يوصي للورثة بأي شيء، بل الورثة يكفيهم إرثهم.
ثم ذكر الله تعالى أن الوصية تكون لمن ترك خيراً، وفسروا ذلك بما إذا ترك مالاً كثيراً فإنه يوصي، وتكون وصيته على المستحب بالخمس، قال أبو بكر رضي الله عنه: رضيت لنفسي ما رضي الله لنفسه.
يعني: قوله تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال:41] فأوصى بالخمس.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: وددت لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (والثلث كثير) أي: فلا يزاد على الثلث، ويستحب أن ينقص منه إلى الربع، وهذا الحديث هو حديث سعد بن أبي وقاص، يقول: (عادني النبي صلى الله عليه وسلم بمكة وأنا مريض، فقلت: يا رسول الله! إني امرؤ ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا.
قلت: فالشطر؟ قال: لا.
قلت: فالثلث؟ قال: الثلث؛ والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) فذكر هنا أن الثلث كثير، وأن سعداً لا يرثه إلا بنت واحدة، أي: وزوجته، وبقية المال يأخذه عصبته كإخوته وبنيهم، ومع ذلك منعه من أن يزيد على الثلث، وقال: الثلث كثير، وعلل بإغنائه لورثته، أي: احرص على أن تغني ورثتك.
ثم إن سعداً شفي من ذلك المرض وتزوج، وولد له أولاد منهم مصعب بن سعد، وعامر بن سعد، وعمر بن سعد وغيرهم، ومع ذلك يظهر أنه التزم بما عاهد عليه النبي صلى الله عليه وسلم بأن يخرج الثلث، يوصي به كصدقة، وذكروا أنه توفي في حدود سنة ست وخمسين.
فالحاصل أن في هذا أن منع الزيادة على الثلث لحق الورثة، فلذلك لا يضار الورثة، ولا يجوز له أن يوزع أمواله في حياته حتى لا يترك لهم شيئاً، حتى ولو كانوا قد أساءوا صحبته، ولو أنهم قد عصوه أو عاملوه معاملة سيئة، فلا يجوز له إخراج أمواله وتفريقها إضراراً بهم.
وأما إذا أراد أن يتصدق في حياته ولو بمال كثير أو يوقف، فإن له ذلك ولو بأكثر من النصف، أي: أن الإنسان في حياته يتصرف بما يريد، فيخرج من ماله ما يريد، وأما بعد الموت فلا يزيد على الثلث، وورد حديث: (إن الله تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم زيادة في أعمالكم) أي: عفا عن ذلك، وأباح لكم عند الوفاة أن تتصدقوا بالثلث ليكون زيادة في أعمالكم، وأما بقية المال فإنه يكون للورثة، أي: إذا أخرج الثلث فالثلثان للورثة.