فليس لبداية الطلب سن معينة، وليس لبداية التدريس والإقراء سن، وليس لنهاية التعليم سن، بل مرد ذلك كله إلى التأهل والحاجة، فإذا تأهل الإنسان للتحمل عليه أن يبادر، إذا تأهل الإنسان للتعليم واحتاج الناس إليه عليه أن يبادر، إذا تأهل الإنسان للتأليف عليه أن يبادر؛ ليغتنم الوقت، إذا خشي من الاختلاط فليكف، ويمتنع من التدريس، والله المستعان.
يقول: "فإذا بلغ الثمانين أحببت له أن يمسك خشية أن يكون قد اختلط" جماعة من الصحابة حدثوا بعد الثمانين، من التابعين كذلك، من أهل العلم من بلغ المائة، بل منهم من جاوز المائة وهو يحدث، ويعلم الناس على أحسن حال، نعم الثمانين فما بعدها مظنة للضعف الشديد، ومظنة للخرف والاختلاط، لكن إذا وجد منه شيء من ذلك يمسك، وإذا لم يشعر هو بذلك ينبغي أن يؤخذ على يده، "وقد استدركوا عليه بأن جماعة من الصحابة وغيرهم حدثوا بعد هذا السن، منهم أنس بن مالك وسهل بن سعد وعبد الله بن أبي أوفى، وخلقٌ ممن بعدهم، وقد حدث آخرون بعد استكمال مائة سنة، منهم الحسن بن عرفة -صاحب الجزء المشهور- وأبو القاسم البغوي وأبو إسحاق الهجيمي والقاضي أبو الطيب الطبري أحد أئمة الشافعية وجماعة كثيرون".
لكن إذا كان الاعتماد على حفظ الراوي فينبغي الاحتراز من اختلاطه إذا طعن في السن، هو مظنة للاختلاط، مظنة للنسيان، لكن ليس الأصل هو النسيان، نعم ينبغي أن يكون الإنسان على حذر، "وأما إذا كان اعتماده على حفظ غيره وخطه وضبطه فهاهنا كلما كان السن عالياً كان أرغب في السماع عليه"؛ لأنه إذا تفرد برواية أحاديث أو برواية كتب أو كتاب فإنه يكون حينئذٍ سنده عالياً، والعلو مطلوب عند أهل العلم، والمراد بالعلو قلة الوسائط بين الراوي والنبي -عليه الصلاة والسلام-، فكلما قل الوسائط وقل رجال الإسناد كان تطرق الخلل إليه أو احتمال تطرق الخلل إليه أقل؛ لأنه ما من راوي من الرواة وإلا ويحتمل أنه نسي أو أخطأ، أو وهم، أو ما أشبه ذلك، فإذا قلت الوسائط قلت هذه الاحتمالات.