تعريف بالأديب والمفكر الإسلامي
الدكتور محمد علي الهاشمي
بقلم: الدكتور محمد حكمت وليد
ولد الأستاذ الدكتور محمد علي الهاشمي في مدينة حلب بسورية عام 1925 لأسرة متوسطة الحال عريقة، لها نسب مكتوب متصل بآل البيت، ورضع منذ نعومة أظفاره حبّ الإسلام والدعوة الإسلامية.
أنهى دراسته الثانوية في حلب، وتقدم إلى مسابقة لاختيار معلمين سنة 1952 كان الأول فيها، وعيّن معلماً في مدينة حلب حتى عام 1954، ثم تقدم إلى مسابقة أخرى لاختيار عدد من حملة الشهادة الثانوية من جميع أنحاء سورية، وابتعاثهم لدراسة اللغة العربية والتربية، فكان الناجح الوحيد بين المتقدمين لهذه المسابقة في مدينة حلب.
انتقل بعد ذلك إلى دمشق حيث أمضى دراسته الجامعية من عام 1954 حتى عام 1959 وحصل على الإجازة في الآداب وعلوم اللغة العربية من كلية الآداب بجامعة دمشق، وعلى الإجازة في التربية من كلية التربية بجامعة دمشق عام 1960.
عُين بعد تخرجه مدرساً في ثانويات حلب من عام 1960، ولبث في التدريس فيها حتى عام 1974 وحصل على شهادة الماجستير من كلية الآداب بجامعة القاهرة عام 1965 ثم على شهادة الدكتوراه عام 1970 من الجامعة نفسها.
وقد نال الدكتور الهاشمي شهادة الدكتوراه لتحقيقه كتاب "جمهرة أشعار العرب في الجاهلية والإسلام" لأبي يزيد محمد بن أبي الخطاب القرشي، وهو منهل من مناهل الأدب العربي وسجلّ ضخم حافل من تراث العرب وحياتهم وأيامهم وخلائقهم ..
وقد تقصى الدكتور الهاشمي نسخ الجمهرة المخطوطة في مظانها في مكتبات العالم في الفاتيكان وإستانبول وحيدر أباد وعليكرة في الهند، وكذلك في المتحف البريطاني ومكتبة جامعة برتستون والمكتبة الوطنية في باريس، وكذلك نسخة العلامة حمد الجاسر ونسخة الحرم المكي، وقام بتحقيقها وضبط أصولها.
والجمهرة من أهم كتب التراث التي حفظت لنا نخبة من القصائد تعد من عيون شعر الجاهلية والإسلام، فيها الشعر السياسي، وفيها الحكمة والموعظة الحسنة، وفيها أيام العرب في جاهليتهم وإسلامهم، وفيها البيئة العربية، وفيها الكثير من الموضوعات التي تصور نفسية العربي وبيئته ومجتمعه وقيمه وأعرافه.
وبعد حصوله على شهادة الدكتوراه قام بالتدريس في كلية الآداب بجامعة حلب مدة سنتين، سافر بعدها إلى المملكة العربية السعودية بطلب من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، حيث تعاقدت معه على التدريس في كلية اللغة العربية وكان ذلك عام 1394هـ/1974م وبقي فيها حتى عام 1408هـ - 1988م.
وفي رحاب الجامعة عرفه زملاؤه وطلابه أستاذاً قديراً ومربياً فاضلاً يغرس في طلابه حبّ العربية والإسلام .. ويجول معهم في حقول اللغة والأدب العربي، ويواصل فيهم روح الجد والبحث العلمي النزيه.
ولا غرو في ذلك على من تربى في أحضان الدعوة الإسلامية ونهل من مناهل فكرها الشامل للكون والإنسان والحياة .. وغدا مُعلماً ومربياً انعكست أخلاق القرآن الكريم على سلوكه وانعكس كل ذلك على تربيته لتلاميذه وأولاده وأهل بيته.
وبعد ما جال أديبنا في كتب التراث محققاً ومحلقاً في جمهرة أشعار العرب طاف مع الصحابي الجليل كعب بن مالك الأنصاري .. الصحابي الشاعر والأديب في كتاب يدرس حياته وشعره.
يقول حفظه الله: كنتُ أمضي في دراستي له والسرور يغمر نفسي فأُحس في العمل نشاطاً واسترواحاً ومتعة ذلك أنني كنتُ أستشرف أثناء هذه الدراسة الفترة المباركة المشرقة التي أضاءت فيها مشكاة الوحي، وأصاخت الدنيا إلى ترتيل الكتاب المنزل، ونَعِمَ الوجود وشاهد الزمان الرعيل الأول من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يبايعونه على إقامة صرح دولة الإسلام، وكان كعب بن مالك من هذا الرعيل.
وقد كان لأستاذنا الهاشمي أيضاً جولات في علم البلاغة والعروض وله مؤلفات في هذا الحقل.
أولها: المنهل العذب في الدراسة الأدبية والإعراب والبلاغة والعروض والقوافي.
وثانيهما: العروض الواضح وعلم القافية.
وله كذلك كتاب عن طرفة بن العبد الشاعر الجاهلي المشهور وأحد أصحاب المعلقات، درس فيه حياته وشعره، وكذلك كتاب: عدي بن زيد العبادي، الشاعر المبتكر .. حياته وشعره.
ولم ينس الدكتور الهاشمي في غمرة انشغاله بالتدريس في رحاب جامعة الإمام .. سيّد البشر حبيبنا محمداً (صلى الله عليه وسلم) وخصه عام 1977 بدراسة فريدة في بابها سماها: "شخصية الرسول ودعوته في القرآن الكريم" ويقول في اختياره لهذه الدراسة:
لا ريب أن الصورة الواضحة الصادقة لشخصية الرسول الكريم التي رسمت خطوطها ريشة القرآن المعجزة هي أصدق ما وصلنا عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) من أخبار وأصح وصف لحقيقة شمائله وأخلاقه، وأوثق تقرير لما كان عليه في حالاته جميعاً.
فلا غروَ إذاً أن تكون الصورة الوضيئة المشرقة لشخصية الرسول الكريم التي استخدمت خطوطها وألوانها من هذا الكتاب الصادق الموثوق، لا غرو أن تكون أصدق وأوضح وأوثق وأضفى صورة في التراث العربي على الإطلاق، وقد درس في هذا الكتاب شخصية الرسول البشر الذي يُعدّه ربه لحمل الرسالة، ودرس بعد ذلك شخصية الرسول النبي الذي يوحى إليه وقال: "إن الباحث يجد نفسه أمام حقيقة ضخمة هائلة، إنه أمام شخصية طلعت على الدنيا زاداً للإنسانية جديداً، لا تزيده الأيام إلا جدة وكمالاً وحياةً، ولقد كان في توافر أسباب هذه العظمة الفريدة في شخص الرسول الكريم دليل قاطع على أن الله تعالى أراد أن يختار من البشر رسولاً يكون فريداً في تكوينه الروحي والخلقي والفكري، بحيث يجمع الفضائل البشرية من أطرافها، ويحوز محاسن الكمال الإنساني من جوانبه كلها.
وبعدما جال كاتبنا في رياض التراث وتفيأ ظلال سيرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) في القرآن الكريم يبحر بنا إلى العصر الحديث ويصدر عام 1981 كتاب "شخصية المسلم كما يصوغها الإسلام في الكتاب والسنّة" وقد تلقى القراء والناشرون هذا الكتاب بالقبول الحسن وكتب له الذيوع والانتشار، وتعددت طبعاته وعمت فائدته، وقد ترجم إلى الإنكليزية وإلى التركية وطبع في تركيا نحو عشرين طبعة، وكل سنة يطبع مرتين أو ثلاثاً.
يقول أستاذنا الهاشمي في مقدمة هذا الكتاب: "إن الله لم ينزل هذا الدين من فوق سبع سماوات ليكون نظريات تستمتع العقول بمناقشتها، ولا ليكون كلاماً مقدساً يتبرك الناس بتلاوته وهم لا يفقهون هديه ولا يدركون معانيه، وإنما أنزله الله ليحكم حياة الفرد ويقود حياة المجتمع وليكون نوراً يضيء طريق البشر .. وهذا ما صنعه رسول الله في صدر الدعوة إذ كانت أولى خطواته في درب الإسلام الطويل أن يصنع رجالاً يتجسد فيهم الإسلام، فإذا هم مصاحف تمشي على الأرض انتشروا في أنحاء الدنيا فرأى الناس فيهم نماذج فريدة من البشر يمثلون منهجاً للحياة فريداً أيضاً.
والإنسانية اليوم والمسلمون على وجه الخصوص في أمسِّ الحاجة إلى صنع هذا النموذج الفريد من البشر الذي لا تطيب الحياة إلا به، ولا تسود القيم الإنسانية الرفيعة إلا بوجوده، ولا تتجلى حقيقة الإسلام اللألاءة إلا فيه.
فما هي تلك الصورة الجميلة لهذا النموذج الإنساني الفريد؟
هذا ما يجده القارئ في شخصية المسلم كما يصوغها الإسلام في الكتاب والسنة وفيها يتحدث حديثاً مفصلاً عن المسلم مع ربه ونفسه ومجتمعه.
وقد أورد المؤلف في الكتاب أفكاراً مميزة قال في إحداها: فكما أن المسلم مؤمن يقظ مطيع أمر ربه كثير التلاوة للقرآن فهو كذلك يزاول الرياضة البدنية ويتقن لغة أجنبية .. وقد كان ابن الزبير رضي الله عنه يتقن عدداً من اللغات دون أن تشغله هذه الصفات عن دينه وآخرته.
وفي الحديث الذي رواه زيد بن ثابت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: يا زيد تعلم لي كتاب يهود فإني والله ما آمن يهود على كتابي قال زيد فتعلمته فما مضى لي نصف شهر حتى حذفته فكنت أكتب لرسول الله إذا كتب إليهم وأقرأ كتبهم إذا كتبوا إليه، وفي حديث أخرجه الترمذي قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتحسن السريانية؟ فإنها تأتيني كتب قلت لا قال: فتعلمها .. فتعلمتُها.
ثم يختار أستاذنا الهاشمي إحدى الشخصيات الإسلامية البارزة في العصر الحديث هو الشاعر عمر بهاء الدين الأميري رحمه الله، ويقوم بدراسته عام 1986 من خلال ديوانين من دواوينه العديدة، يُطوّفان في أسمى آفاق الإنسانية، ويصفان أدق خلجات النفوس ويرسمان أقرب المشاهد إلى القلوب هما ديوان (أب) وديوان أمي اللذين -كما يقول- شدّ بهما إلى قيثارة الشعر العربي الحديث وترين جديدين عزف عليهما أجمل الألحان وأسمعنا ألواناً من شريف المعاني وبديع البيان.
رثى الشاعر والدته بأصدق الشعر وأجمله وعندما يقرب اليوم الأربعون لوفاتها يمهد نفسه للصبر الجميل وهو يتأهب لزيارة ضريحها .. وذلك بإجراء حوار طويل بين عقله وعاطفته ينتصر فيه الرضى بقضاء الله وقدره، وإن كانت عينه دامعةً هتانه:
رويد دموعك يا مقلتي ... أأبغي لها صفقة خاسره ..
وهل برُّها أن تَعُدَّ عيوني ... اللياليَ ساهدة ساهره
معاذ مقام الهوى أن تزيل ... جوى فقدها عبرة سائره
ولكن ستبقى خلايا كياني ... لأمي ذاكرة شاكره
غداً سوف أسعى إلى رمسها ... وأنشق أعرافها العاطره
وأمسك دمعيَ لو أستطيعُ ... وأرسلُ من روحيَ الزاخره
ضراعة صبٍ يرى في الرضى ... سُمُوا فكل الدنى عابره
ويبقى رضى الله يربو ويحبو ... طمأنينة بالندى زاخره
لقد كان حقاً كما وصفه أستاذنا الهاشمي شاعر الأبوة الحانية والبنوّة الباره .. والفن الأصيل ..
ثم انتقل الدكتور محمد علي الهاشمي في أوائل العام الجامعي 148هـ - 1988م إلى التدريس في كلية الآداب للبنات في الرياض، وبقي فيها حتى بلوغه السن القانونية في أوائل عام 1416هـ - 1996م ولا يزال يشرف على رسائل الدراسات العليا فيها.
ولا ينسى في غمرة التحولات الحضارية الهائلية في عصر الكومبيوتر الفضائيات وهو يُدرّس في كلية البنات أن يبلور شخصية المرأة كما يصوغها الإسلام في الكتاب والسنة، وصاغها بأسلوب مشرق يجمع بين أصالة الفكرة وجمال العرض وقوته ..
وما لاقاه هذا الكتاب من الانتشار والقبول الحسن في الأوساط العربية والإسلامية يشير إلى ظمأ تلك القلوب إلى مصادر المعرفة الإسلامية الحقيقية الصافية .. فقد طبع الكتاب خمس طبعات خلال أربع سنوات وقد تمت ترجمته إلى التركية وطبعت منه عشرات الآلاف من النسخ كما تمت ترجمته إلى الإنكليزية والفرنسية.
ولا غروَ في ذلك فإن هذا الكتاب يُجلّي العناية البالغة التي أولاها الإسلام المرأة في تكوين شخصيتها تكويناً كاملاً، شاملاً كل جانب من جوانب شخصيتها الفردية والأسرية والاجتماعية حتى بلغت في تكوينها الشأو الرفيع الذي لم تبلغه المرأة في تاريخها إلا في هذا الدين.
وقد أذيعت معظم مواضيع هذا الكتاب بصوت المؤلف في حلقات متتابعة من إذاعة القرآن الكريم في المملكة العربية السعودية، ويقول الشيخ أمين سراح: ما من عائلة تركية مسلمة متمسكة بدينها إلا ولها جلسات تقرأ فيها من كتابي شخصية المسلم وشخصية المرأة المسلمة ويقول كثير من الشباب الأتراك أن كتاب شخصية المرأة المسلمة ساهم في النهضة النسائية في تركية والوعي الذي ظهر عند المرأة المسلمة والذي تمثل في انتخابات حزب الرفاه في حينها.
إن أستاذنا الهاشمي ابن دعوة الإسلام عاصرها في نشأتها وتربى في أحضانها .. وعاش في صفوفها خادماً لدينه وأمته .. وشاهداً بأم عينيه العودة في حال ازدهارها وقد استوت على سوقها واشتد عودها، ورأى كذلك ما تلاقيه الدعوة من أشواك وعثرات على الطريق.
ولم يمنعه حبه للدعوة وإخلاصه لها من تحديد تلك العثرات في نقد ذاتي موضوعي، ففي حياة الإسلاميين إيجابيات كثيرة لا ينكرها مُنصف ولا يُماري فيها عاقل عادل، ولكن لهم إلى جانب هذه الإيجابيات سلبيات لا سبيل إلى إنكارها أو المغالطة فيها، فهم بشر من بني آدم وكل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن الذي رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، وقد كان سيدنا عمر يقول: "رحم الله أمرأً أهدى إلى عمر عيوبه".
وقد سطر أستاذنا الهاشمي ذلك في كتيب سماه (سلبيات يجب أن تختفي من حياة الإسلاميين) وعدد منها التعصب للرأي أو عالم أو جماعة، أو التعصب للبلد وأهله .. والضن بالنصيحة خشية الإحراج، وقلة النقد الذاتي.
وقال: إن من علامات نضج الجماعات ومن الدلائل القاطعة على سلامة تفكيرها إقبالها على النقد الذاتي من تلقاء أنفسها وترحيلها بالنقد يصدر من غيرها وتقبله بصدور رحبة ونفوس سعة رضية ولا ريب أن هذا يسير بالدعوة نحو الأفضل.
وقد حضر أستاذنا الهاشمي عدة مؤتمرات عالمية وأدبية في المملكة العربية السعودية والبلاد العربية والإسلامية وله بحوث ودراسات ومضَ بها الخاطر في فترات متباعدة وفي مناسبات مختلفة منها ما نشر في الصحف أو أذيع في الإذاعة والتلفاز، وقد جمعها في كتاب: "ومضات الخاطر" وهي بحوث ودراسات إسلامية واجتماعية وأدبية فاضت بها نفوس المؤلف فجاءت متنوعة الموضوعات ملونة الشكل والصورة والأسلوب.
وفي الختام أقول: إنك قد تختلف مع بعض الأفكار والطروحات والمواقف لكاتبنا وأديبنا وأستاذنا الهاشمي ولكنك لا تملك إلا أن تكبر فيه تواضعه وإخلاصه وإيمانه بأفكاره، وبالتالي لا يمكنك إلا أن تحبه.