من الثناء وصار سكانها نحو ألفي ألف نسمة حتى ازدحمت بساكنيها. وكانت متاجر البلدان القاصية تصلها براً وبحراً تجيئها من خراسان وما وراءها والهند والصين والشام والجزيرة، والطرق إذ ذاك آمنة والسبل مطمئنة.
وأما من حيث ثروة الدولة فقد كان يرد على الخليفة ببغداد ما يبقى من خراج الأقاليم الإِسلامية ويدخل بيت مال الخليفة يصرف منه مرتبات الوزراء والمساعدين له والباقي يتصرف فيه حسبما يرى وهو شيء جسيم وكان الرشيد أسمح خلفاء بني العباس بالمال يعطي عطاء من لا يخشى فقراً للقصاد والشعراء والفقهاء والمنجمين والكتّاب وجرى على سننه كبار وزرائه وشيوخ دولته ورؤساء قواده حتى امتلأت الأسفار بذكر عطاياهم التي يتردد الإنسان في صحتها وراجت التجارة واشتد الترف وتغالى الناس في حاجاتهم وتأنقوا في معايشهم وأنغمسوا في الملاذ واللهو والخلاعة وذلك شأن كل أمة سالت عليها سيول الثروة.
وأما العلم فإن بغداد صارت قبلة لطلاب العلم من جميع الأمصار الإِسلامية يرحلون إليها ليتمموا ما بدأوا فيه من العلوم والفنون فهي المدرسة العليا لطلاب العلوم الدينية والعربية على اختلافها فقد كان فيها كبار المحدثين والفقهاء وحفاظ اللغة وآداب العرب والنحويين وكلهم قائمون بالدروس والإفادة لتلاميذهم في المساجد الجامعة التي كانت تعتبر مدارس عليا لتلقي هذه العلوم وقلما كان يتم لإنسان وصف عالم أو فقيه أو محدث أو كاتب إلا إذا رحل إلى بغداد وأخذ عن علمائها وجميع هؤلاء العلماء كانوا يعيشون عيشاً رغداً مما كان يفيضه عليهم الرشيد والبرامكة ومن دونهم من الخير الواسع والبر العميم ولم تكن بغداد بالمقصرة في علوم الدنيا كالطب والحكمة وغيرها من سائر الصناعات فقد حشد إليها الأطباء والمهندسون وسائر الصناع من الأقاليم المختلفة وحصل بذلك نعيم عظيم ونهضة علمية بقي أثرها خالداً.
أما الدولة الأموية فلم يكن في عهدها لترجمة الكتب كبير حظ ولا عظيم أثر لأنها أقرب إلى من قبلها في السذاجة الصناعية فلما جاءت الدولة العباسية وكان لها اختلاط كبير بالفرس وهذا الاختلاط قد جعل نفوس العباسيين تصبو إلى الاطلاع على شيء مما عند الفرس واليونان من آثار مقدميهم من العلماء والحكماء والفلاسفة وأول مَن عني بترجمة تلك الكتب أبو جعفر المنصور ثم الرشيد. أما أوروبا في ذلك الوقت فكانت مهد جهالة لأنه بانقراض الرومانيين وغفلة الأمم المتبربرة على أوروبا انطفأ مصباح العلم وأما الحال في البلاد الإِسلامية فكانت على العكس من