الدنياوية ومقاصدهم ونسوا ما كان عليه سلفهم من تحري القصد فيها واعتماد الحق في مذاهبها فكان ذلك مما دعا الناس إلى أن نقموا عليهم بأفعالهم وأدلوا بالدعوة العباسية وتولى رجالها الأمر فكانوا من العدالة بمكان وصرفوا الملك في وجوه الحق ومذاهبه ما استطاعوا حتى جاء بنو الرشيد بعدهم فكان منهم الصالح والطالح ثم أفضى الأمر إلى بنيهم فأعطوا الملك والترف حقه وانغمسوا في الدنيا وباطلها ونبذوا الدين وراءهم ظهرياً فتأذن الله بحربهم وانتزاع الأمر من أيدي العرب جملة والله لا يظلم مثقال ذرة. اهـ.
في سراج الملوك: إن أدعى خصال السلطان صلاح الرعية وأقواها تمسكهم بأديانم وحفظهم لمروءتهم وإصلاح السلطان نفسه وتنزيهه عن سفاسف الأخلاق وبُعده عن مواضع الريب وترفيع نفسه عن استصحاب أهل البطالة والمجون واللهو والإعلان بالفسوق.
إذا ما غدا ملك باللهو مشتغلا ... فاحكم على ملكه بالويل والحرب
أما ترى الشمس في الميزان طالعة ... لما غدا وهو برج اللهو والطرب
وقد كانت صحبة محمَّد الأمين لأبي نواس الشاعر وصمة عظيمة عليه أوهى بها سلطانه ووضع عند العامة والخاصة قدره وأطلق لسان الخلف بالشتم والثناء القبيح عليه فخلفه بذلك أخوه المأمون على الولاية وأبو نواس هذا هو القائل:
ألا فاسقني خمراً وقيل لي هي الخمر ... ولا تسقني سراً إذا أمكن الجهر
وبح باسم من أهوى ودعني من الكنى ... فلا خير في اللذات من دونها ستر
اعلم أن بغداد وصلت في عهد هؤلاء الأمراء إلى قمة مجدها ومنتهى فخارها. أما من حيث العمارة فقد فاقت كل حاضرة عرفت لعهدها: بنيت فيها القصور الفخمة التي أنفق علي بناء بعضها مئات الألوف من الدنانير وتأنق مهندسوها في إحكام قواعدها وتنظيم أمكنتها وتشييد بنيانها وصارت قصور الجانب الشرقي بالرصافة تناطح قصور الجانب الغربي كان في الشرق قصور البرامكة وما أنشأوه هناك من الأسواق والجوامع والحمامات وبالجانب الغربي كانت قصور الخلافة التي كانت تبهر الناظرين اتساعاً وجمالاً وامتدت الأبنية امتداداً عظيماً حتى صارت بغداد كأنها مدن متلاصقة تبلغ الأربعين علي جانبي دجلة واستبحر العمران فيها لما جاءها