ويبين بلسان وقلم الناقد الحاذق أن كلام الأقران بعضهم في بعض غير مقبول، فيقول -رحمه الله- في "السير" "6/ 496": لَسْنَا نَدَّعِي فِي أَئِمَّةِ الجَرْحِ وَالتَّعْدِيْلِ العِصْمَةَ مِنَ الغَلَطِ النَّادِرِ. وَلاَ مِنَ الكَلاَمِ بنَفَسٍ حَادٍّ فِيْمَنْ بَيْنَهُم وَبَيْنَهُ شَحنَاءُ وَإِحْنَةٌ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ كَثِيْراً مِنْ كَلاَمِ الأَقْرَانِ بَعْضِهِم فِي بَعْضٍ مُهدَرٌ، لاَ عِبْرَةَ بِهِ، وَلاَ سيما إذا وثق الرجل جماعة يلوح على قولهم الإنصاف.
ومحمد بن إسحاق، ومالك بن أنس كل منهما قد نال من صاحبه، لكنه أَثَّرَ كَلاَمُ مَالِكٍ فِي مُحَمَّدٍ بَعْضَ اللِّيْنِ، وَلَمْ يُؤثِّرْ كَلاَمُ مُحَمَّدٍ فِيْهِ وَلاَ ذَرَّةٍ، وارتفع مالك، وصار كالنجم، والآخر فَلَهُ ارْتفَاعٌ بِحَسْبِهِ، وَلاَ سِيَّمَا فِي السِّيَرِ، وَأَمَّا فِي أَحَادِيْثِ الأَحكَامِ، فَيَنحَطُّ حَدِيْثُه فِيْهَا عَنْ رُتْبَةِ الصِّحَّةِ إِلَى رُتْبَةِ الحَسَنِ، إِلاَّ فيما شذ فيه، فإنه يعد منكرا.
هكذا يبين قلمه ولسانه عن موهبة نقدية تنبئ عن علم ثر في الجرح والتعديل، وسائر علوم الحديث، وهي انتقادات منصفة ليس فيها حيف أو انحراف عن الجادة.
وقد أطال الحافظ -رحمه الله- بعض تراجم الأعلام وقصر بعضا آخر، وذلك حسب حال المترجم ومنزلته العلمية أو الأدبية أو الاجتماعية، وقد اتبع منهجا خاصا في صياغة الترجمة فيذكر لقب المترجم وكنيته واسمه ونسبته، ثم يذكر تاريخ ولادته، وشيوخه، وتلاميذه، كما يذكر مؤلفاته وآثاره العلمية، ثم يذكر مكانته العلمية من خلال أقوال العلماء فيه، ثم يذكر تاريخ الوفاة، وربما يذكر عدة أقوال في تاريخ وفاة المترجم، ويرجح بينها. ويذكر من مات مع هذا المترجم في هذه السنة من الأعلام.
تاسعا: أهمية كتاب السير بين كتب التراجم:
لا جرم أن كتاب سير أعلام النبلاء من أعظم كتب التراجم التي حوت قدرا كبيرا من تراجم الأعلام في مشارق الأرض ومغاربا خلفاء، وملوك وأمراء ووزراء وأطباء، ومحدثين وفقهاء ونحاة وشعراء وزهاد وفلاسفة ومتكلمين أوعب فيها الحافظ -رحمه الله تعالى- تراجم حقبة كبيرة من الزمن ربت على السبعمائة عام من عصر الصحابة -رضي الله عنهم- إلى عصره الذي عاش فيه، وهي موسوعة معرفية هامة ينهل منها كل المتخصصين في التاريخ، والحديث، والنحو والشعر والفلسفة وعلم الكلام، وغيرها من المعارف.