بِالقِسْطِ وَبَالَغَ فِي الاسْتخفَاف بِهِ وَأَبُو بَكْرٍ فَعَلَى عَظمته فِي العِلْمِ لاَ يَبْلُغُ رُتْبَة أَبِي مُحَمَّدٍ وَلاَ يَكَاد فَرحمهُمَا الله وَغفر لَهُمَا.
قَالَ اليَسَعُ ابْنُ حَزْمٍ الغَافِقِيّ وَذَكَرَ أَبَا مُحَمَّدٍ فَقَالَ: أَمَا مَحْفُوْظُهُ فَبحرٌ عَجَّاج وَمَاءٌ ثَجَّاج يَخْرُج مِنْ بحره مَرجَان الحِكَم وَيَنبت بِثَجَّاجه أَلفَافُ النِّعم فِي رِيَاض الهِمم لَقَدْ حَفِظ علُوْمَ المُسْلِمِيْنَ وَأَربَى عَلَى كُلّ أَهْل دين وَأَلَّف الْملَل وَالنحل وَكَانَ فِي صِبَاهُ يَلْبَس الحَرِيْر وَلاَ يَرْضَى مِنَ المَكَانَة إلَّا بِالسَّرِيْر. أَنْشَدَ المعتمدَ، فَأَجَاد وَقصد بَلَنْسِيةَ وبها المظفر أَحَد الأَطوَاد. وَحَدَّثَنِي عَنْهُ عُمَرُ بنُ وَاجِب قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْد أَبِي بِبَلَنْسِيةَ وَهُوَ يُدَرِّسُ المَذْهَب إِذَا بِأَبِي مُحَمَّدٍ بن حَزْم يَسْمَعُنَا وَيَتَعَجَّب ثُمَّ سَأَلَ الحَاضِرِيْنَ مَسْأَلَةً مِنَ الفِقْهِ جُووب فِيْهَا فَاعْترَض فِي ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الحُضَّار: هَذَا العِلْمُ لَيْسَ مِنْ مُنْتَحَلاَتِكَ فَقَامَ وَقَعَدَ وَدَخَلَ مَنْزِله فَعكَف وَوَكَفَ مِنْهُ وَابِلٌ فَمَا كَفَّ وَمَا كَانَ بَعْدَ أَشْهُرٍ قَرِيْبَة حَتَّى قَصَدْنَا إِلَى ذَلِكَ المَوْضِع، فَنَاظر أَحْسَن منَاظرَة وَقَالَ فِيْهَا: أَنَا أَتبع الحَقَّ وَأَجتهد وَلاَ أَتَقَيَّدُ بِمَذْهَب.
قُلْتُ: نَعم مَنْ بَلَغَ رُتْبَة الاجْتِهَاد وَشَهِد لَهُ بِذَلِكَ عِدَّة مِنَ الأَئِمَّةِ لَمْ يَسُغْ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ كَمَا أَنَّ الفَقِيْه المُبتدئ وَالعَامِي الَّذِي يَحفظ القُرْآن أَوْ كَثِيْراً مِنْهُ لاَ يَسوَغُ لَهُ الاجْتِهَاد أَبَداً فَكَيْفَ يَجْتَهِدُ وَمَا الَّذِي يَقُوْلُ؟ وَعلاَم يَبنِي؟ وَكَيْفَ يَطيرُ وَلَمَّا يُرَيِّش؟ وَالقِسم الثَّالِث: الفَقِيْهُ المنتهِي اليَقظ الفَهِم المُحَدِّث الَّذِي قَدْ حَفِظ مُخْتَصَراً فِي الْفُرُوع وَكِتَاباً فِي قوَاعد الأُصُوْل وَقرَأَ النَّحْو وَشَاركَ فِي الفضَائِل مَعَ حِفْظِهِ لِكِتَابِ اللهِ وَتشَاغله بتَفْسِيْره وَقوَةِ مُنَاظرتِهِ فَهَذِهِ رُتْبَة مِنْ بلغَ الاجْتِهَاد المُقيَّد وَتَأَهَّل لِلنظر فِي دلاَئِل الأَئِمَّة فَمتَى وَضحَ لَهُ الحَقُّ فِي مَسْأَلَة وَثبت فِيْهَا النَّصّ وَعَمِلَ بِهَا أَحَدُ الأَئِمَّةِ الأَعْلاَمِ كَأَبِي حَنِيْفَةَ مِثْلاً أَوْ كَمَالِك أَوِ الثَّوْرِيِّ أَوِ الأَوْزَاعِيِّ أَوِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاق فَلْيَتَّبع فِيْهَا الحَقّ وَلاَ يَسْلُكِ الرّخصَ وَلِيَتَوَرَّع وَلاَ يَسَعُه فِيْهَا بَعْدَ قيَام الحُجَّة عَلَيْهِ تقليد فإن خاف ممن يُشَغِّب عَلَيْهِ مِنَ الفُقَهَاء فَلْيَتَكَتَّم بِهَا وَلاَ يَترَاءى بِفعلهَا فَرُبَّمَا أَعْجَبته نَفْسُهُ وَأَحَبّ الظُهُوْر فَيُعَاقب. وَيَدخل عَلَيْهِ الدَّاخلُ مِنْ نَفْسِهِ فَكم مِنْ رَجُلٍ نَطَقَ بِالْحَقِّ وَأَمر بِالمَعْرُوف فَيُسَلِّطُ اللهُ عَلَيْهِ مَنْ يُؤذِيْه لِسوء قَصدهِ وَحُبِّهِ لِلرِّئَاسَة الدِّينِيَّة فَهَذَا دَاءٌ خَفِيٌّ سَارٍ فِي نُفُوْسِ الفُقَهَاء كَمَا أَنَّهُ دَاءٌ سَارٍ فِي نُفُوْسِ المُنْفِقِين مِنَ الأَغنِيَاء وَأَربَاب الوُقُوْف وَالتُّرب المُزَخْرَفَة وَهُوَ دَاءٌ خفِيٌّ يَسرِي فِي نُفُوْس الجُنْد وَالأُمَرَاء وَالمُجَاهِدِيْنَ فَترَاهم يَلتقُوْنَ العَدُوَّ وَيَصْطَدِمُ الجمعَان وَفِي نُفُوْس المُجَاهِدِيْنَ مُخَبّآتُ وَكمَائِنُ مِنَ الاختيَالِ وَإِظهَار الشَّجَاعَةِ ليُقَالَ وَالعجبِ، وَلُبْسِ