قَالَ الحَافِظُ عَبْدُ الغَنِيِّ: لَمَّا تلقَّى أَبُو الطَّاهِرِ المعزَّ أَبَا تَمِيمٍ بِالإِسكندريَّةِ سَاءلَهُ المعزُّ, فَقَالَ: يَا قَاضِي, كَمْ رَأَيْتَ مِنْ خَلِيْفَةٍ? قَالَ: وَاحدٌ. قَالَ: مَنْ هُوَ? قَالَ: أَنْتَ, وَالبَاقُوْنَ مُلُوْكٌ. فَأَعجَبَهُ ذَلِكَ, ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَحَجَجْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: وَسَلَّمْتَ عَلَى الشيخَينِ? قَالَ: شَغَلنِي عَنْهُمَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, كَمَا شَغَلنِي أَمِيْرُ المُؤْمِنِيْنَ عَنْ وَلِيِّ عَهْدِهِ, فَازدَادَ بِهِ المعِزُّ إِعجَاباً, وتَخَلَّصَ مِنْ ولي العهد؛ إِذْ لَمْ يسلِّمْ عَلَيْهِ بِحضرَةِ المعزِّ, فَأَجَازَهُ المعزُّ يَوْمَئِذٍ بِعَشْرَةِ آلاَفِ دِرْهَمٍ.
وحدَّثني زَيْدُ بنُ عَلِيٍّ الكَاتِبُ: أنَّ القَاضِي أَبَا الطَّاهِرِ السَّدُوْسِيَّ أَنشدَهُ لِنَفْسِهِ:
إِنِّيْ وَإِنْ كُنْتُ بِأَمرِ الهوَى ... غِرًّا فسِتْري غَيْرُ مَهْتُوكِ
أكنَّى عَنِ الحِبِّ وَيَبْكِي دَماً ... قَلْبِي وَدَمْعِي غَيْرُ مَسْفُوكِ
فَظَاهِرِي ظَاهِرُ مُستملِكٍ ... وَبَاطنِي باطِنُ مَمْلُوْكِ
وأَخبَرَنِي خُمار بنُ عَلِيٍّ بِصُورٍ قَالَ: أَتيتُ القَاضِي أَبَا الطَّاهِرِ بِأَبيَاتٍ لَهُ فِي وَلدِهِ, فَأَنشَدَ فِيْهَا وَبَكَى:
يَا طَالباً بَعْدَ قَتْلِي ... الحَجَّ للهِ نُسْكَا
تَرَكْتَنِي فيكَ صَبّاً ... أَبْكِي عَلَيْكَ وَأُبْكَى
وَكَيْفَ أَسْلُوكَ قُلْ لِي ... أَمْ كَيْفَ أَصْبِرُ عَنْكَا
رُوحِي فِدَاؤُكَ هَذَا ... جزَاءُ عَبْدِكَ مِنْكَا
وحدَّثني مُحَمَّدُ بنُ عَلِيٍّ الزَّيْنَبِيُّ, حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ عَلِيِّ بنِ نُوْحٍ قَالَ: كنَّا فِي دَارِ القَاضِي أَبِي الطَّاهِرِ نَسْمَعُ عَلَيْهِ, فلمَّا قُمْنَا صَاحَ بِي بَعْضُ مَنْ حضَرَ: يَا قَاضِي -وَكُنْتُ ألقَّب بِذَلِكَ, فسَمِعَ القَاضِي أَبُو الطَّاهِرِ, فَبَعَثَ إِلَيْنَا حَاجبَهُ فَقَالَ: مَنِ القَاضِي فِيْكُمْ? فَأَشَارُوا إليَّ, فلمَّا دَخَلتُ عَلَيْهِ قَالَ لِي: أَنْتَ القَاضِي? فَقُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ لِي: فَأَنَا مَاذَا? فسكَتُّ, ثُمَّ قُلْتُ: هُوَ لقبٌ لِي, فتَبَسَّم وَقَالَ لِي: تحفظُ القُرْآنَ? قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: تَبِيْتُ عِنْدنَا اللَّيْلَة أَنْتَ وَأَرْبَعَةُ أَنفسٍ مَعَكَ, وَتواعدُهُم, مِمَّنْ تعلَمُهُ يحفظُ القُرْآنَ وَالأَدبَ. قَالَ: فَفَعلتُ ذَلِكَ, وَأَتينَا المَغْرِبَ, فقُدِّمَ إِلَيْنَا أَلوَانٌ وَحَلْوَاءٌ, وَلَمْ يَحْضُرِ القَاضِي, فلمَّا قَارَبنَا الفرَاغَ خَرَجَ إِلَيْنَا يزحفُ مِنْ تَحْتِ سترٍ, وَمَنَعَنَا مِنَ القِيَامِ وَقَالَ: كُلُوا مَعِي, فلمْ آكلْ بَعْدُ، وَلاَ يَجُوْزُ أَنْ تدعُونِي آكلُ وَحدِي, فَعَرَفْنَا أَنَّ الَّذِي دَعَاهُ إِلَى مَبِيْتِنَا عِنْدَهُ غَمَّه عَلَى وَلدِهِ أَبِي العَبَّاسِ, وَكَانَ غَائِباً بِمَكَّةَ, ثُمَّ أَمرَ مَنْ يَقرأُ منَّا, ثُمَّ اسْتحضَرَ ابنَ المقَارعِيِّ وَأَمرَهُ بأن يقول