قَمِيصاً، وَعَمِلَ لَهُم طَعَاماً طَيِّباً، فَأَطعَمَهُم، وَخَدَمَهُم، وَكَسَاهُم، وَأَعطَى لِكُلِّ وَاحِدٍ سَبْعَةَ دَرَاهِمَ، أَوْ ثَلاَثَةً، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ، قَامَ لَهُ ذَلِكَ مَقَامَ الحَجِّ. فَلَمَّا قَرَأَ ذَلِكَ الفَصلَ، الْتَفَتَ القَاضِي أَبُو عُمَرَ إِلَى الحَلاَّجِ، وَقَالَ لَهُ: من أين لك هذا؟ قال: من كِتَابِ "الإِخْلاَصِ" لِلْحَسَنِ البَصْرِيِّ. قَالَ: كَذَبتَ يَا حَلاَلَ الدَّمِ! قَدْ سَمِعْنَا كِتَابَ "الإِخْلاَصِ"، وَمَا فِيْهِ هَذَا. فَلَمَّا قَالَ "أَبُو عُمَرَ": كَذَبتَ يَا حَلاَلَ الدَّمِ، قَالَ لَهُ حَامِدٌ: اكْتُبْ بِهَذَا. فَتَشَاغَلَ أَبُو عُمَرَ بِخِطَابِ الحَلاَّجِ، فَأَلَحَّ عَلَيْهِ حَامِدٌ، وَقَدَّمَ لَهُ الدَّوَاةَ، فَكَتَبَ بِإِحلاَلِ دَمِهِ، وَكَتَبَ بَعْدَهُ مَنْ حَضَرَ المَجْلِسَ. فَقَالَ الحَلاَّجُ: ظَهرِي حِمَىً، وَدَمِي حَرَامٌ، وَمَا يَحِلُّ لَكُم أَنْ تَتَأَوَّلُوا عَلَيَّ، وَاعْتِقَادِي الإِسْلاَمُ، وَمَذْهَبِي السُّنَّةُ، فَاللهَ اللهَ فِي دَمِي.

وَلَمْ يَزَلْ يُرَدِّدُ هَذَا القَوْلَ وَهُم يَكْتُبُوْنَ خُطُوطَهُم، ثُمَّ نَهَضُوا، وَرُدَّ الحَلاَّجُ إِلَى الحَبْسِ، وَكُتِبَ إِلَى المُقْتَدِرِ بِخَبَرِ المَجْلِسِ، فَأَبطَأَ الجَوَابَ يَوْمَيْنِ، فَغلظَ ذَلِكَ عَلَى حَامِدٍ، وَنَدِمَ وَتَخَوَّفَ، فَكَتَبَ رُقعَةً إِلَى المُقْتَدِرِ فِي ذَلِكَ، وَيَقُوْلُ: إِنَّ مَا جَرَى فِي المَجْلِسِ قَدْ شَاعَ، وَمَتَى لَمْ تُتبِعْهُ قَتْلَ هَذَا، افْتُتِنَ بِهِ النَّاسُ، وَلَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ اثْنَانِ. فَعَادَ الجَوَابُ مِنَ الغَدِ مِنْ جِهَةِ مُفْلِحٍ: إِذَا كَانَ القُضَاةُ قَدْ أَبَاحُوا دَمَهُ، فَلْيَحْضُرْ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الصَّمَدِ صَاحِبُ الشُّرطَةِ، وَيَتَقَدَّمْ بِتَسلِيمِهِ وَضَربِهِ أَلفَ سَوْطٍ، فَإِنْ هَلَكَ، وَإِلاَّ ضُرِبَتْ عُنُقُه.

فَسُرَّ حَامِدٌ، وَأَحضَرَ صَاحِبَ الشُّرطَةِ، وَأَقرَأَه ذَلِكَ، وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ بِتَسْلِيمِ الحَلاَّجِ، فَامْتَنَعَ وَذَكَرَ أَنَّهُ يَتَخَوَّفُ أَنْ يُنْتَزَعَ مِنْهُ. فَبَعَثَ مَعَهُ غِلمَانَهُ حَتَّى يُصَيِّرُوهُ إِلَى مَجْلِسِه، وَوَقَعَ الاتِّفَاقُ عَلَى أَنْ يُحْضَرَ بَعْدَ عِشَاءِ الآخِرَةِ، وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِه، وَقَوْمٌ عَلَى بِغَالٍ مُوكفَةٍ مَعَ سُيَّاسٍ، فَيُحمَلَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهَا، وَيُدخَلَ فِي غِمَارِ القَوْمِ. وَقَالَ حَامِدٌ لَهُ: إِنْ "قَالَ لَكَ:" أُجرِي لَكَ الفُرَاتَ ذَهَباً، فَلاَ تَرفَعْ عَنْهُ الضَّربَ.

فلَمَّا كَانَ بَعْدَ العِشَاءِ، أَتَى مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الصَّمَدِ إِلَى حَامِدٍ، وَمَعَهُ الرِّجَالُ وَالبِغَالُ، فَتَقَدَّمَ إِلَى غِلمَانِهِ بِالرُّكوبِ مَعَهُ إِلَى دَارِه، وَأَخرجَ لَهُ الحَلاَّجَ، فَحكَى الغُلاَمُ: أَنَّهُ لَمَّا فَتَحَ البَابَ عَنْهُ وَأَمرَه بِالخُرُوجِ، قَالَ: مَنْ عِنْدَ الوَزِيْرِ؟ قَالَ: مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الصَّمَدِ. قَالَ: ذَهبنَا وَاللهِ. وَأُخرجَ، فَأُركبَ بَغلاً، وَاختلطَ بحملة السَّاسَةِ، وَركبَ غِلمَانُ حَامِدٍ حَوْلَهُ حَتَّى أَوْصَلُوهُ، فَبَاتَ عِنْدَ ابْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ، وَرِجَالُه حولَ المَجْلِسِ. فَلَمَّا أَصْبَحَ، أُخرجَ الحَلاَّجُ إِلَى رَحْبَةِ المَجْلِسِ، وَأَمرَ الجلاَّدَ بِضَرْبِه، وَاجْتَمَعَ خَلاَئِقُ، فَضُرِبَ تَمَامَ أَلفِ سوطٍ، وَمَا تَأَوَّهَ، بَلَى لَمَّا بَلغَ سِتَّ مائَةِ سَوْطٍ، قَالَ: لاِبْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ: ادْعُ بِي إِلَيْكَ، فَإِنَّ عِنْدِي نَصيحَةً تَعدِلُ فتحَ قُسْطَنْطِيْنِيَّةَ. فَقَالَ لَهُ مُحَمَّدٌ: قَدْ قِيْلَ لَي: إِنَّك سَتَقُولُ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْ هَذَا، وَلَيْسَ إِلَى رَفعِ الضَّربِ سَبِيْلٌ.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015