وَقِيْلَ: اعْتمرَ يَحْيَى بنُ خَالِدٍ، فَتَعَلَّقَ بِالأَسْتَارِ، وَقَالَ: رَبِّ ذُنُوبِي عَظِيْمَةٌ، فَإِنْ كُنْتَ مُعَاقِبِي، فَاجْعلْ عقُوبَتِي فِي الدُّنْيَا، وَإِنْ أَحَاطَ ذَلِكَ بِسَمْعِي، وَبَصْرِي، وَمَالِي، وَوَلدِي، حَتَّى أَبلغَ رضَاكَ، فَقدحَ الأَمِيْرُ ابْنُ مَاهَانَ عِنْدَ الرَّشِيْدِ فِي مُوْسَى بنِ يَحْيَى بنِ خَالِدٍ، وَأَعْلَمَهُ طَاعَةَ أَهْلِ خُرَاسَانَ لَهُ، وَأَنَّهُ يُكَاتِبُهُم، فَاسْتوحشَ الرَّشِيْدُ مِنْهُ، وَركِبَهُ دَيْنٌ، فَاخْتفَى مِنَ الغُرَمَاءِ، فَتَوَهَّمَ الرَّشِيْدُ أَنَّهُ سَارَ إِلَى خُرَاسَانَ، ثُمَّ ظهرَ، فَسَجَنَهُ، فَهَذَا أَوَّلُ نَكْبَتِهِم، فَأَتَتْ أُمُّهُ تُلاَطفُ الرَّشِيْدَ، فَقَالَ: يَضمنُهُ أَبُوْهُ، فَضمِنَهُ.
وَغَضِبَ الرَّشِيْدُ أَيْضاً عَلَى الفَضْلِ بنِ يَحْيَى، لِتَرْكِهِ الشُّربَ مَعَهُ، وَكَانَ الفَضْلُ يَقُوْلُ: لَوْ عَلِمتُ أَنَّ شرب الماء ينقص مروءتي، لتركته، وكان مَشْغُوَفاً بِالسَّمَاعِ، وَكَانَ جَعْفَرٌ يُنَادِمُ الرَّشِيْدَ، وَيَأْمرُهُ أَبُوْهُ بِالإِقلاَلِ مِنْ ذَلِكَ، فَلاَ يَسْمَعُ. وَقَالَ يَحْيَى: يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ! أَنَا أَكرهُ مدَاخِلَ جَعْفَرٍ مَعَكَ، فَلَو اقْتصرْتَ بِهِ عَلَى الإِمْرَةِ دُوْنَ العُشْرَةِ. قَالَ: يَا أَبتِ لَيْسَ ذَا بِكَ، بَلْ تُرِيْدُ أَنْ تُقَدِّمَ الفَضْلَ عَلَيْهِ.
ابْنُ جَرِيْرٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بنُ زُهَيْرٍ، أَظُنُّه عَنْ عَمِّهِ زَاهِرِ بنِ حَرْبٍ، أَنَّ سَبَبَ هَلاَكِ البَرَامِكَةِ، أَنَّ الرَّشِيْدَ كَانَ لاَ يَصبرُ عَنْ جَعْفَرٍ وَأُخْتِه عَبَّاسَةَ، وَكَانَ يُحْضِرُهُمَا مَجْلِسَ الشَّرَابِ، فَيَقومُ هُوَ، فَقَالَ: أُزَوِّجُكَهَا عَلَى أَنْ لاَ تَمَسَّهَا. قَالَ: فَكَانَا يَثملاَنِ، وَيَذْهَبُ الرَّشِيْدُ، وَيثبُ جَعْفَرٌ عَلَيْهَا، فَوَلَدَتْ مِنْهُ غُلاَماً، فَوَجَّهَتْهُ إِلَى مَكَّةَ، فَاخْتفَى الأَمْرُ، ثُمَّ ضَرَبَتْ جَارِيَةً لَهَا، فَوَشَتْ بِهَا، فَلَمَّا حَجَّ الرَّشِيْدُ، هَمَّ بِقتلِ الطِّفلِ، ثُمَّ تَأْثَّم مِنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا وَصلَ إِلَى الحِيْرَةِ، بَعَثَ إِلَى مَسْرُوْرٍ الخَادِمِ، وَمَعَهُ أَبُو عِصْمَةَ، وَأَجْنَادٌ، فَأَحَاطُوا بِجَعْفَرٍ لِيْلاً، فَدَخَلَ عَلَيْهِ مَسْرُوْرٌ وَهُوَ فِي مَجْلِسِ لهوٍ، فَأَخْرَجَهُ بِعُنْفٍ، وَقَيَّدَهُ بقِيدِ حِمَارٍ، وَأَتَى بِهِ، فَأَمرَ الرَّشِيْدُ بِقَتْلِهِ.
وَعَنْ مَسْرُوْرٍ قَالَ: وَقَعَ عَلَى رِجْلِي يُقَبِّلُهَا، وَقَالَ: دَعْنِي أَدخلُ فَأُوصِي. قُلْتُ: لاَ سَبِيْلَ إِلَى ذَا، فَأَوصِ بِمَا شِئْتَ فَأَوْصَى، وَأَعتقَ مَمَالِيْكَهُ، ثُمَّ ذَبَحْتُهُ بَعْدَ أَنْ رَاجعتُ فِيْهِ الرَّشِيْدَ، وَجِئْتُهُ بِرَأَسِهِ. وَوجَّهَ الرَّشِيْدُ جُنْداً إِلَى أَبِيْهِ، فَأَحَاطُوا بِهِ وَبأَوْلاَدِهِ وَمَوَالِيْه، وَأُخِذَتْ أَمْوَالُهُم وَأَملاَكُهُم، وَبُعِثَتْ جُثَّةُ جَعْفَرٍ إِلَى بَغْدَادَ، فَصُلِبَ، وَنُودِي: أَلاَ لاَ أَمَانَ لمن آوى بَرْمَكِيّاً، وَصَلَبَ الرَّشِيْدُ أَنَسَ بنَ أَبِي شَيْخٍ عَلَى الزَّنْدَقَةِ، وَكَانَ مُخْتَصّاً بِالبَرَامِكَةِ.
عَنْ إِبْرَاهِيْمَ بنِ المَهْدِيِّ قَالَ: خَلاَ جَعْفَرٌ يَوْماً بِنُدَمَائِهِ وَأَنَا فِيْهِم، وَتضَمَّخَ بِالطِّيبِ، فَجَاءهُ عَبْدُ المَلِكِ بنُ صَالِحٍ، فَدَخَلَ فَاربَدَّ وَجْهُ جَعْفَرٍ، فَدَعَا عَبْدُ المَلِكِ غُلاَمَهُ، فَنَزَعَ سوَادَهُ، وَقَلنسُوتَهُ، وَأَتَى مَجْلِسَنَا، فَأَلبسُوهُ حَرِيْراً، وَأَطعمَ وَشَربَ. فَقَالَ: وَاللهِ مَا شَرِبتُهُ قَبْلَ اليَوْمِ، فَأَخفِ عليَّ، وَنَادَمَ أَحْسَنَ مُنَادِمَةٍ، وَسُرِّيَ عَنْ جَعْفَرٍ، وَقَالَ: اذكُرْ حَوَائِجَكَ، فَإِنِّي لاَ