يصمدون إلى عملهم العلمي، لا يهتبلون بغيره، أفيعجب بعد هذا القراء أن شاهدوا العلماء يقومون بِما عليهم؟ فتكتظ المدارس في هذه الأجيال الأخيرة، كما كانت في الدولتين قبلها: السعدية، والإيلغية، فقد انطوتا وذهب عصرهما، ولكن نشاط العالِم الجزولي لَم ينطوِ، ولَم يذهب عصره، فالمعارف زاخرة، والمدارس طافحة، والبعثات إلى تامكروت وإلى فاس ومراكش، بل وإلى الأزهر أيضا تتوالى. والقبائل ترى كل واحدة منها أن من الواجب عليها إشادة مدرسة علمية خاصة بِها، يدرس فيها العلم العربي، فتقوم بِها بثلث أعشارها، وبأحباس من أثريائها -على قلة أحباسهم في هذا الميدان- وبأشياء أخرى من صميم أموال بينها، يدفعونها سنويا بنظام خاص، في يوم معين، يؤدى فيه للمدرسة كل ما تتوقف عليه، كالحطب والسمن والزيت وحبوب أخرى لِمن يشارطونه، زيادة على ما تقدم، مِمَّا يَجعله غالبهم مئونة للطلبة المنقطعين فقط، وكثيرا ما تَجد في قبيلة كبيرة، كهشتوكة، وبعمرانة وإيلالن وسكتانة أفخاذا تَختص كل واحدة منها بِمدرستها (?)، لأن إقامة المدارس وعمارتها بطلبة المعارف وبالتدريس للعلم العربي، صارت ميادين فَخر تتسابق إليه كل القبائل، حتى ليكون كبيضة الديك، وكالكبريت الأحمر؛ إن تَجد قبيلة سوسية كبيرة أو صغيرة، ليس لَها معهد علمي بسيط مشاد بين ظهرانِها، يؤمه من حَفظ القرآن من مساجد القرى، كما يؤمه الأفاقيون الذين ينزلون حيث يطيب لَهم النزول، في أية مدرسة شاءوا، فيجدون المئونة الكافية البسيطة المألوفة عند كل واحد منهم في داره، وبِها تربى، فكما يَجد بيتا للسكنى وحده على حدة يَجعل فيه ما يكون معه من المتاع والكتب، يكون في أمن تام. ويا ويح من تُحدثه نفسه أن يقرب بسوء مسجدا أو مدرسة أو حِمى أو حرما أيّا كان، فإن رجالات القبيلة لا تأخذهم عليه الشفقة ولا الرحْمَة، كما أنه يَجد بين يديه أستاذا لا يكلفه من ذات يديه نقيرا؛ لأنه يأخذ من مشارطته في المدرسة ما يأخذه، ثم يكون الجامع بين الأستاذ والتلميذ تلك العاطفة المتوارثة عند الشرقيين بين التلاميذ والأساتذة، فيسوقه ذلك إلى الاجتهاد، حتى يكون له في التحصيل ما قدر له، وهو يتدرج بِحسب العادة المتبعة في الفنون والمتون.
وجد العلماء من هذه المشارطات في هذه المدارس الكثيرة المنبثة في كل قبيلة، منبعا لِمالية يتكون لَهم بِها مركز في الهيئة الاجتماعية، ثم يضمون إلى