من أعظم أقواله: قوله: (لا أدري) ، إمام ينال هذه المكانة عند العلماء والأمراء، ومن أعظم أقواله: (لا أدري) فلقد قال عبد الرحمن بن مهدي شيخ الإمام أحمد: كنا ذات يوم عند الإمام مالك، فجاءه رجل وقف في مجلس علمه وكان الناس يتزاحمون ويتضاربون على مجلس الإمام مالك، فجاءه رجل ووقف على مجلس علمه، والإمام بين طلابه، أو إن شئت فقل بين شيوخه وأساتذته يلقي ويروي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الرجل: يا أبا عبد الله! قال: نعم، قال: لقد جئتك من مسيرة ستة أشهر.
انظروا! مشى الرجل ستة أشهر على ظهر دابته، لم يركب طيارة، ولا سيارة مكيفة، بل ولم يتكاسل، ونحن الآن نرى كثيراً من المسلمين قد يأتيهم العالم إلى قراهم ومنهم من يتكاسل أن يذهب إليه وأن يجلس بين يديه، وهذا يأتي من مسيرة ستة أشهر، ويقف ويقول: لقد حملني أهل بلدي مسألة لأسألك فيها، فقال الإمام مالك: سل، فسأله الرجل عن مسألته -ولم تذكر الرواية تلك المسألة- فنظر الإمام مالك بعد ما انتهى السائل من سؤاله وقال: لا أدري، لا أحسن جواب مسألتك، فذهل الرجل وقال: أتيتك مسيرة ستة أشهر وأهل بلدي ينتظرونني وأنت تقول: لا أحسن جوابك مسألتك، ماذا أقول للناس إذا ما رجعت إليهم؟ فقال مالك: قل لهم: قال مالك بن أنس: لا أحسن الجواب.
وهذه رسالة إلى كل عالم إلى كل طالب علم إلى كل طويلب علم أن يتعلم هذا الدرس الكبير الجليل.
وقال تلميذه الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: لقد صحبت مالكاً فسئل عن ثمان وأربعين مسألة، فقال في اثنتين وثلاثين منها: لا أدري.
أيها الأحبة! إن أعظم درس أقدمه في لقائنا مع هذا الإمام الجليل هو هذا الدرس، أن يتعلم العالم والداعية وطالب العلم أن يقول: (لا أدري) ، ولا يستحي ولا يتحرج، فإن القول على الله بغير علم مزلة جائرة فاجرة، وهي عتبة خطيرة فاجرة، فلا تقل على الله بغير علم، وإننا لنرى كثيراً من الناس في الحج في المساجد في كل زمان وفي كل مكان لا يتورعون عن الفتيا، ويتجرأ الواحد منهم على القول على الله جل وعلا بغير علم، وما ابتليت الأمة والله إلا بمثل هذا الصنف النكد من الخنفشاريين الذين تزببوا قبل أن يتحصرموا، وادعوا العلم قبل أن يتعلموا، وأجابوا على الناس قبل أن ينهي الناس أسئلتهم، فإننا نرى الآن صنفاً قد يجيب السائل على سؤاله قبل أن ينتهي السائل من طرح السؤال، فسبحان الفتاح العليم! ونرى كثيراً من الناس قد يجيب على كثير من المسائل التي والله لو عرضت واحدة منها على عمر بن الخطاب، فاروق الأمة لجمع لها أهل بدر كلهم، يجمع عمر لهذه المسألة الصحابة ليستشيرهم، ومن الناس من يجيب بغير تورع، ويستحي أن يقول الناس عنه: إنه لا يعلم.
فيا أخي قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالها الصحابة من بعده، وقالها أئمة أهل العلم.
جاء رجل إلى عبد الله بن عمر فسأله وقال: يا عبد الله! أترث العمة؟ قال: لا أدري، اذهب إلى العلماء واسألهم، فضرب الرجل كفاً على كف وانطلق وهو يقول: أنت تقول: اذهب إلى العلماء فاسألهم، فلما انصرف الرجل قبل ابن عمر يد نفسه وقال: نعم ما قال أبو عبد الرحمن، سئل عما لا يدري فقال: لا أدري.
أيها الأحبة! والله ما ابتليت الأمة بمصيبة أكثر من ابتلائها بهذا الطراز النكد من الخنفشاريين، الذي يفتي في كل شيء، ويقول في أي شيء، ولا يتورع أن يقول: لا أدري.
ومن أعجب ما قرأت في هذا: أن رجلاً كان يفتي الناس في كل شيء، ويجيب على أي مسألة، فأراد بعض أهل الخير أن يبينوا للناس خطره، فذهبوا إليه وقد اختلقوا كلمة لا أصل لها، وذهبوا إليه في مجلس علمه، وقالوا: يا شيخ! ما تقول في الخنفشار -وأنا أسمي هذا الطراز بالطراز النكد من الخنفشاريين نسبة إلى هذا السؤال- والخنفشار كلمة لا أصل لها، فإنهم أخذوا بأول حرف من اسم كل واحد منهم فصارت هذه الكلمة، ولا أصل لها في قواميس اللغة على ظهر الأرض، ولكن الرجل يدعي أنه يعلم ما تحت الأرض وما فوق الأرض، فسألوه: ما تقول في الخنفشار؟ قال: نعم.
الخنفشار نبت طيب الرائحة ينبت في أطراف اليمن -حتى لا يذهب أحد ولا يبحث عنه- إذا أكلته الإبل عقد لبنها، كما قال الشاعر اليمني -يستدل بالشعر-: لقد عقدت محبتكم فؤادي كما عقد الحليب الخنفشار وقال: قال في الخنفشار أبو داود كذا وكذا، وقال فيه فلان كذا وكذا، وأخيراً قال: وقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فقام إليه أحدهم وقال: اسكت يا كذاب، كذبت على هؤلاء جميعاً فلا تكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أقول: والله ما ابتليت الأمة بمثل ابتلائها بهذا الطراز النكد من الخنفشاريين الذين تزببوا قبل أن يتحصرموا، وادعوا العلم قبل أن يتعلموا، ورحم الله الغزالي صاحب الإحياء حيث يقول: (لو سكت من لا يعلم لسقط الخلاف) .
هذا درس يعلمنا إياه إمامنا وقدوتنا الإمام مالك صاحب هذه المكانة السامقة العالية بين العلماء والأمراء والخلفاء، يعلمنا أن نقول: لا أدري، والله لا أحسن الجواب.
وهكذا أيها الأحبة يحذرنا النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام الترمذي وابن ماجة والبيهقي، وصحح الحديث شيخنا الألباني في صحيح الترغيب والترهيب من حديث كعب بن مالك، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من تعلم العلم ليجاري به العلماء، أو ليماري به السفهاء، أو ليصرف به وجوه الناس إليه فهو في النار) .