الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: قال الله جل وعلا وهو أصدق القائلين: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [البقرة:106 - 107].
هذه الآية تتكلم عن النسخ، ومناسبتها لما قبلها أن الآيات قبلها كانت تتكلم عن اليهود واعتراضهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما كانت اليهود لا تجيز النسخ أصلاً وتمنعه في الشرع بالكلية ذكره الله جل وعلا هاهنا رداً على مزاعم اليهود وبياناً للأمة، قال الله: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة:106] الجملة شرطية، والنسخ في اللغة: النقل، قال الله تعالى في سورة الجاثية: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:29] أي: نكتب وننقل، ويأتي بمعنى الإزالة، والمقصود أن الرب تبارك وتعالى: الأمر أمره، والشرع شرعه، وهو جل وعلا وحده دون سواه أعلم بمصالح عباده، فلما كان تبارك وتعالى أعلم بمصالح عباده، وهو المالك أصلاً حق له جل وعلا: أن ينسخ ما يشاء، وهذا من تسليمنا بكمال ربوبيته وألوهيته، وكمال أسمائه وصفاته، ولابد أن يقر به العبد؛ ولهذا النسخ لم يخالف فيه أحد من أهل الإسلام؛ لأن شريعة النبي صلى الله عليه وسلم ناسخة لما قبلها من الشرائع ومهيمنة عليها، لكن النسخ في القرآن جائز عقلاً وواقع سمعاً بهذه الآية وبقول الله جل وعلا: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} [النحل:101]، هذا كله من دلائل وقوعه مع ما جاء من الأحاديث، وليس هذا موضع سرد أدلة، ولم يخالف في مسألة النسخ في القرآن فيما يعلم من علماء المسلمين إلا عالم واحد هو أبو مسلم الأصفهاني رحمه الله، لكنا إذا استثنيناه فالإجماع منعقد على أن النسخ واقع في القرآن.
ويقسم أهل العلم رحمهم الله النسخ في القرآن على ثلاثة أقسام: الأول: منسوخ التلاوة والحكم.
الثاني: منسوخ التلاوة دون الحكم.
الثالث: منسوخ الحكم دون التلاوة، وهذا أكثره.
منسوخ التلاوة والحكم، ومنسوخ التلاوة دون الحكم، وهذا يمثلون له بما ورد في البخاري عن عمر رضي الله عنه أنه قال: [كان فيما كان قد أنزل: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم) قال عمر: لولا أن يقول الناس: زاد عمر في كتاب الله لكتبتها بيدي]، فالرجم واقع بالاتفاق رغم أن الآية منسوخة تلاوة.
أما هو منسوخ الحكم مع بقاء التلاوة فهذا هو المقصود بالنسخ إذا أطلق، فإذا قيل: إن فلاناً يعرف ناسخ القرآن من منسوخه، فالمقصود هذا النوع الثالث.
وقد أجاب العلماء عن سؤال يقع: إذا نسخ الله الحكم كما في أكثر الآيات المنسوخة، لماذا أبقى الله جل وعلا التلاوة؟ وقد أجاب الزركشي رحمه الله في البرهان عن هذا التساؤل بإجابتين: الإجابة الأولى قال فيها ما معناه: القرآن كما أنزل ليُعمل به أنزل ليتلى ويتقرب إلى الله جل وعلا بتلاوته؛ لأنه كلام الله، فحتى الآيات المنسوخة حكماً هي من كلام الله.
الإجابة الثانية قال: إن غالب النسخ يكون تخفيفاً، فإذا تلا الإنسان الآية المنسوخة التي فيها التثقيل يرى رحمة الله على هذه الأمة حيث رفع عنها المشقة، وقد يكون هناك أجوبة غير التي حررها (صاحب البرهان) رحمه الله، لكن المقصود أننا نتعبد الله جل وعلا بكل أمر أمرنا به تبارك وتعالى.
قال الله: {أَوْ نُنسِهَا} [البقرة:106] قرئت بالهمز (ننسِئها) والمعنى: التأخير والتأجيل، وقرئت كما هو بين أيديكم: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} [البقرة:106] فالنسيان هنا: ضد الذكر، أي أن الله، ينسي المؤمنين إياها، وهذا يدل عليه قول الله جل وعلا: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعلى:6 - 7].
ونحن -معشر المسلمين- متفقون على أن القرآن كله كلام الله، وبما أنه كله كلام الله فلا تفاوت فيه من حيث لفظه؛ لأنه جميعاً كلام الرب، فقول الله جل وعلا: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} [البقرة:106] ليس المقصود: أن آية أحكم من آية لفظاً ونظماً، لا، وإنما المقصود خيراً منها بالنسبة للعبد فيما ينفعه؛ لأن الله جل وعلا أعلم بمصالح عباده في العاجل والآجل، فإذا رأينا النسخ فيه نقل الأمة من الأمر الثقيل إلى الأمر الخفيف قلنا: هذا عاجل خير لهم ومنفعة في الدنيا، وإذا رأينا الآية نقلت من خفيف إلى أثقل مثل نقل الناس من صوم يوم عاشوراء إلى صيام رمضان، عرفنا أن فيه خيراً في الآجل، هذه النظرة العامة لقضايا النسخ.
بعد ذلك تتفرع أمور كثيرة ليس هذا مجال سردها؛ لأننا لا نريد أن يطغى فن على فن التفسير، وفن التفسير: هو أن يفهم القارئ مراد الرب تبارك وتعالى، هذه الغاية منه، وإذا تحقق للعالم أو للمتكلم أن يفهم الغير مراد الله تحقق المقصود من علم التفسير.
والعلماء جميعاً متفقون على أن القرآن ينسخ بالقرآن، لكن الخلاف هل تنسخ السنة القرآن، وهذا قال به الجمهور، ومنعه الشافعي رحمه الله تعالى.
والقائلون بأن السنة تنسخ القرآن اختلفوا في أمثلتها: فبعضهم يقول: لا يوجد مثال واضح صريح ظاهر، وبعضهم يمثل بقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:180]، وجاء في الحديث: (لا وصية لوارث)، فهل هذا نسخ للآية أو تخصيص لها؟ فمن رأى أنه تخصيص لم يرَ أن الحديث ناسخ للقرآن، ومن رأى أنه نسخ جعل هذا الحديث مثالاً لنسخ القرآن بالسنة، والعلم عند الله.
{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:106] هذا خطاب للنبي، والمقصود به النسخ؛ ولهذا جاء بعدها: ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض، وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير، والولي والنصير بينهما خصوص وعموم، فالولي هو القريب، لكنه قد يكون عاجزاً عن أن ينصرك بمعنى: أنه يحب أن ينصرك لكنه عاجز، وأما النصير، فهو القادر على نصرتك، ولا يلزم أن يكون قريباً، قد يكون أجنبياً عنك.