تفسير قوله تعالى: (وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون)

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شعار ودثار ولواء أهل التقوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: كنا قد انتهينا في اللقاء الماضي إلى قول الله جل وعلا: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} [الزخرف:26]، ووافق ذلك أن كان في آخر الحلقة، فنجم عنه أن المعنى لم يتحرر تحرراً كاملاً، فكان لزاماً أن نستفتح به لقاءنا هذا.

فنذكر أولاً المسلك اللغوي، فإذا انتهينا من المسلك اللغوي نعيد إجمالاً معنى الآية، ونحرر ما قاله المفسرون، ثم نذكر رأينا إن كان لنا رأي غير ما قالوه.

فالله يقول: {وَإِذْ قَالَ} [الزخرف:26] أي: واذكر إذ قال؛ لأن (إذ) هنا ظرفية تحتوي الحدث، وإبراهيم هو أبو الأنبياء، وأفضل خلق الله بعد نبينا صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاة والسلام: (فأقوم مقاماً يرغب إلي فيه الخلق كلهم حتى إبراهيم)، فقوله عليه الصلاة والسلام: (حتى إبراهيم) قرينة ظاهرة على أن إبراهيم أفضل الخلق بعد نبينا صلى الله عليه وسلم.

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ} [الزخرف:26] قدم ذكر الأب ليبين عظيم تبرؤ إبراهيم من الأصنام، والخطاب لقوم يعبدون الأصنام، فأخبرهم عن خليل الله إبراهيم، وأما القول: بأن إبراهيم أب لهم فيحتاج إلى أعادة نظر، وأما من حيث أصله فنعم، لكن ليس صحيحاً تاريخياً أن ننسب الناس لكل أب لهم، بمعنى لا بد من شخصية ما تكون فاصلة بين ما بعد وما دون وما قبل، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (أرموا بني إسماعيل) ولم يقل بني إبراهيم؛ لأنه لو قال: ارموا بني إبراهيم لدخل بنو إسرائيل معنا، لكنا قال صلى الله عليه وسلم: (أرموا بني إسماعيل) حتى يخرج بنو إسحاق؛ لأن بني إسحاق منهم يعقوب، ويعقوب منه بنو إسرائيل، ومن إسحاق كان العيص، ومن العيص كان الروم، فلو نسبنا الناس إلى إبراهيم كما جرى عليه بعض المفسرين دون أن يلحظ هذا في معنى الآية فإننا سنقع في الخطأ والخلط في فهم الآيات، وهذا لا يتضح لك الآن إلا إذا أكملنا تحرير المعنى، وأنا قلت: سأبدأ بداية تروّي في قضية اللغة.

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ} [الزخرف:26] (براء) لغة في بري، وكان أهل عالية نجد آنذاك يستخدمونها، كما يقولون: طويل وطوال، ويقولون: بريء وبراء، {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} [الزخرف:26]، مما هذه مكونة من (من) و (ما)، فأدغمنا في بعضهما البعض، فأما (من) فحرف جر، لكن (ما) تحتمل هاهنا أن تكون مصدرية، وأن تكون موصولة، فإذا قلنا: إنها مصدرية فيصبح المعنى: إنني براء من عبادتكم لغير الله؛ لأن عبادة مصدر من الفعل عبد، وهنا (ما) تصبح مصدرية، وإن قلنا: إنها موصولة يصبح المعنى: إنني براء من معبوداتكم، موصول، أي: من الذي تعبدونه، ولا يتحرر من هذا كبير اختلاف، فإبراهيم بريء منهم؛ بسبب عبادتهم لغير الله، {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} [الزخرف:26]، {إِلَّا} [الزخرف:27] استثناء منقطع في قول الجمهور، وهو الحق، بمعنى لكن، أي: لكن الذي فطرني أي: خلقني، فإن سيهدين.

وهنا إشكال وهو: أن السين جاءت هنا ولم تأتِ في آية الشعراء: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء:78].

قال الشيخ الهرري أمتع الله به -وهو ما زال موجوداً في مكة- قال: بعد عناية ودراسة فيها الذي يظهر أن هنا جيء بالسين لا للتسويف ولكن للتأكيد؛ لأنه هناك في آية الشعراء ذكر أن الأصنام عدو له، قال: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي} [الشعراء:75 - 77]، وأما هنا فأراد إبراهيم أن يخبر بالبراءة من قومه ومن آلهتهم فجيء بالسين للتأكيد لا للتسويف، ثم قال كلمة نرددها الآن: والله أعلم بأسرار كتابه.

قوله: {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف:27] إلى الآن لا يوجد خلاف بين العلماء في المعنى؛ لأنه ظاهر.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015