إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فنستأنف في هذا اللقاء المبارك تفسير سورة الزخرف، وكنا قد انتهينا إلى قول الله جل وعلا: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18]، والآية التي بعدها شديدة الارتباط بها، قال الله: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف:19].
فكل من نازع الله فهو مغلوب، والله يظهر ضعف عدوه وتناقضه قولاً أو عملاً، وقد زعم القرشيون أمرين: الأمر الأول: زعموا أن الملائكة بنات لله.
والأمر الثاني: ينجم عن هذا أنهم جعلوا الملائكة شركاء لله؛ لأن الابن جزء من والده، قال صلى الله عليه وسلم: (إنما فاطمة بضعة مني، يريبني ما رابها)، على هذا جمع هؤلاء القرشيون النقيضين، والنقيضان في قولهم أنهم رفعوا أولاً: الملائكة من مقام العبودية، ولهذا قال الله: {الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ} [الزخرف:19]، رفعوهم إلى مقام أنهم جعلوهم بنات لله، وجعلوهم شركاء مع الله، وهذا ارتفاع وارتقاء بمقام الملائكة، وفي نفس الوقت جعلوهم بنات! والذكر أفضل من الأنثى، فرفعوهم من وجه ووضعوهم من وجه آخر، وهذه قمة التناقض، قال الله جل وعلا: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} [الزخرف:19] الشهادة هنا بمعنى: الحضور، {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف:19]، وهذا فيه تخويف للناس؛ لأن الله قد علم من غير تدوين شهادتهم أن مآلهم إلى النار، ومع ذلك حاكمهم الله على هذا الأمر.