تفسير قوله سبحانه: (قل لن ينفعكم الفرار من دون الله ولياً ولا نصيراً)

وفي هذا تعظيم للعهد الذي بين العبد وبين ربه، وأن الإنسان إذا قطع على نفسه عهداً أو وعداً وجب عليه أن يلتزم به، ثم قال الله: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب:16].

العقل يقول: إن الإنسان ينجو إذا فر، لكن إذا أراد الله الحياة لهذا فسينفعه الفرار، لكن إذا كان الله جل وعلا لم يرد له حياة فلن ينفعه فراره، كما أن المتقدم في الجيش والقادم في أول الصف إذا أراد الله له أن يقتل فسيقتل، لكن إن لم يكن الله يريد له أن يقتل حتى لو تقدم الصفوف فلن يقتل، إن لم يكن الله جل وعلا قد كتب عليه حياته.

ثم قال الله جل وعلا لهم: هب أنكم فررتم ونجوتم من القتل في الخندق، هل يعني ذلك أنكم ستحيون حياة أبدية؟! محال؛ ولهذا قال الله بعدها: {وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب:16].

يقولون: إن عبد الملك بن مروان المؤسس الثاني لدولة بني أمية، وبخلافته انتقلت الخلافة من الفرع السفياني إلى الفرع المرواني، قال شوقي: مررت بالمسجد المحزون أسأله هل في المصلى والمحراب مروان وبلاد الشام معروفة بمرض الطاعون، وقد مات كثير من الصحابة والتابعين بسبب طاعونها، فحل بها الطاعون أيام عبد الملك بن مروان ففر، فلما فر أخذ معه عبداً من عبيده يخدمه، والمستوى العقلي والفكري بين غلام خادم وما بين أمير المؤمنين مختلف اختلافاً كبيراً، والحديث لا يمكن أن يكون متلائماً للفرق الفكري، لكن عبد الملك لم يكن معه إلا هذا الغلام، ولابد من الحديث خاصة أن الخائف والهارب من الطاعون يريد من أحد أن يسليه، وهما في الطريق لم يبعدوا عن دمشق كثيراً قال عبد الملك لغلامه: قل لي ما تقول أنت وأقرانك؟ قال: يا أمير المؤمنين! بلغني فيما بلغني أن أسداً أجار ثعلباً، فقال له الثعلب: أنا أصطاد لك على أن تجيرني من كل أحد، فوافق الأسد، فأصبح الثعلب يختال في مشيته لأنه في حمى الأسد، فجاء طير كبير الحجم جداً يريد أن يخطف الثعلب ويحمله معه، فخاف الثعلب وارتعد، فارتقى على ظهر الأسد يريد منه أن يحميه، فجاء الطائر وتناول الثعلب وحمله، فقال الثعلب يستنجد بالأسد، لماذا لم تحمن يا أبا الحارث، وأبو الحارث كنية الأسد، فقال الأسد: لقد وعدتك أن أحميك من دواب الأرض أما ما يأتي من السماء فلا طاقة لي به، ففهمها عبد الملك ولوى عنق الدابة وقال: والله لقد وعظتني يا غلام أيما وعظ، ثم تلا: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب:16] وعاد إلى دمشق ونجاه الله من الطاعون فلم يهلك.

فثمة أمور يعجز المرء أن يتخذ فيها حيلة، فليس له إلا أن يسلم أمره إلى الله، ثم إنك أحياناً قد يرحمك الله بمشورة أو برأي من هو أقل منك فهماً أو عقلاً أو علماً، وإذا أنت صدقت مع الله في سريرتك، وأحسنت نيتك فإن الله يسخر لك خلقه يدلونك ويهدونك ويحمونك ولو كانوا ضعفاء؛ لأنهم إنما هم سخرهم العلي الكبير لك.

قال الله: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب:16] معنى الآية: إن نجوتم إذاً لا تمتعون إلا قليلاً، فإذاً لا تمتعون إلا قليلاً جواب لشرط محذوف، وهذا قالوا: إنه موجود في لسان العرب، قال قائلهم: لو كنت من مازن لم تستبح إبلي بنو اللقيطة من ذهل ابن شيبان إذاً لقام بنصري معشر خشن عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا معنى الكلام أنه يقول: لو كنت من قبيلة بني مازن لما استطاع أحد أن يتجرأ على إبلي، ثم قال: إذاً لرده ذو معشر خشن يقصد: أنه لو سلبت إبلي لردها أولئك الأخيار، وهو لم يذكر كلمة: إن سلبت إبلي، كذلك في الآية لم يذكر النجاح، ولكن قول الله جل وعلا: {وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب:16] دل على أنها جواب شرط لفعل شرط محذوف.

ثم قال الله جل وعلا: {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [الأحزاب:17] والآية في معناها العام تهدف إلى بيان أن الله جل وعلا وحده من يحفظ، ووحده من يكلأ عباده، ووحده من ينصر، ووحده من يعصم، لا رب غيره، ولا إله سواه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015