ثم قال جل شأنه: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63].
إن أكثر الذين يؤلفون في ذكر خصائص النبي صلى الله عليه وسلم يحتجون بهذه الآية على أن الرسول لا ينادى كما ينادى غيره، وما ذهبوا إليه صحيح، وأما ما استدلوا به فخطأ، فالآية لا تتكلم عن كيفية مناداة الرسول صلى الله عليه وسلم أبداً، وإنما جاء هذا في الحجرات في قوله تعالى: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2].
ولكن المقصود هنا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يدعوكم لأمر جامع إلا وهو أمر عظيم، فلا يقاس بدعوة غيره، فلا تجعلعوا دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لكم كدعاء بعضكم بعضاً، والمعنى: أن دعاء بعضكم بعضاً لا حرج معه في أن تخرجوا، أما الدعوة التي تتم عن طريق النبي صلى الله عليه وسلم فهي معظمة، فلا يحسن معها منكم الخروج، والدليل على صحة هذا القول القرينة في الآية، فالله تعالى قال بعدها: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا} [النور:63] يعني: قليلاً قليلاً، يلوذون خفية، فينسل هذا من هنا، وينسل هذا من هناك، وهكذا.
فالله جل وعلا يؤدب هؤلاء الصحابة على أن الأمر الجامع عند النبي صلى الله عليه وسلم ليس كالأمر الجامع عند غيره.
وليس المعنى ما ذهب إليه بعض الفضلاء من أن الدعاء المراد به هنا المناداة، فهذا غير مستقيم؛ لأن القرينة هنا تأباه، والقرينة هي قوله: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا} [النور:63] و (لواذاً) هنا حال.