ثم قال جل شأنه: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور:60].
القواعد جمع قاعد، من غير تاء؛ لأن القاعدة بالتاء تدخل فيها الكبيرة والصغيرة، فكل من جلست في بيتها لأي شيء، فهي قاعدة، وأما القاعد ففيها خلاف على قولين للعلماء: الأشهر منهما أن القاعد: هي التي قعدت عن الولد والحيض والزواج.
وقال ابن قتيبة -وهو إمام في اللغة يحتج بأقوال مثله-: إنها الكبيرة في السن، وسميت (قاعد) وجمعت على (قواعد)؛ لأنها تكثر من القعود في البيت لكبر سنها وعجزها عن الخروج، وهذا قد يكون منتفياً في زماننا بوسائل النقل والإعانة المعاصرة، هذا الأمر.
والعرب تقول للمرأة هذا حتى وإن كانت شابة، كقول الحطيئة: أطوف ما أطوف ثم آوي إلى بيت قعيدته لكاع فهو يعني زوجته، ولكن الذي يعنينا أن القواعد جمع قاعد، وهي المرأة التي قعدت عن الحيض والولد والزوج.
قال ربنا: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا} [النور:60] معنى: (لا يرجون نكاحاً) أي: الغالب أنه لا يطمع في مثلهن، فليس للرجال في أمثالهن مطمع، وهذا كله يجري مجرى الغالب، وإلا فإن من القواعد المحكمات أن لكل ساقطة لاقطة، والعرب تقول: تعلقتها شمطاء شاب وليدها وللناس فيما يعشقون مذاهب فالقواعد اللاتي غلب على الظن أنهن لا يطمع في مثلهن قال الله عنهن: {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ} [النور:60] أي: حرج إثم {أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور:60] أي: يتخففن من الثياب، الجلباب والرداء، وليس المقصود ترك اللباس بالكلية حتى تظهر العورة، فهذا لم يقل به أحد، ولن يقول به عاقل؛ لقوله تعالى: {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور:60] فهذا قيد، ومعنى هذا القيد، أن يكون سبب وضع الجلباب والرداء التخفيف لا التبرج وإظهار ما يجب ستره، فالمعنى الحقيقي للتبرج: هو إظهار ما يجب إخفاؤه وستره، فالمقصود أن المرأة إذا كانت عجوزاً مقعدة كبيرة طاعنة في السن فلا بأس بأن تضع ما ثقل من الثياب عن نفسها، تريد بذلك التخفيف عن كاهلها ومشقة لبس الجلباب، لا تريد بذلك إظهار ما خفي.
وهذا هو معنى {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور:60].