ثم قال ربنا: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:33].
في هذه الآية نقول: لا يردن في ذهنك أن مجتمع المدينة في عهد النبوة كان البغاء فيه ظاهراً، فحري بتلك الحقبة زماناً ومكاناً أن يتحرر في أذهاننا أنها أفضل حقبة، وأن ذلك أمثل جيل وأكمل رعية، ولكن المراد هنا فئة من المنافقين كانت تسكن المدينة، وعلى رأسهم عبد الله بن أبي، وكان لديه جاريتان يكرههما على البغاء، فورد أنهما شكتاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله جل وعلا هذه الآية رحمة بالفتاتين وتوبيخاً لـ عبد الله بن أبي.
فالله جل وعلا يقول تعريضاً: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:33] فالله يقول له: كيف تفعل ذلك وأنت سيد؟! والأصل أن تحافظ على من تحت يديك فلا تكرههن على البغاء وهن لا يردنه وإنما يردن التحصن، وإلا فلو طلبت المرأة البغاء بذاتها فذلك لا يسمى إكراهاً، فالقيد هنا جاء مخاطباً للواقع، والقيد إذا جاء مخاطباً للواقع فلا مفهوم له.
ولو اعتبرناه قيداً له مفهوم لأصبح لزاماً أن نقول: يجوز أن يكون هناك بغاء من غير إكراه، لكن هذا القيد لا مفهوم له، كقول الله جل وعلا في حق ذاته العلية: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [المؤمنون:117]، فلا يعني ذلك أنه يجوز أن تدعو إلهاً آخر لك فيه برهان؛ لأنه لا يوجد إله غير الرب تبارك وتعالى.
يقول تعالى: {وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:33] المراد بالآية تلك الفتاتان على وجه الخصوص، ومن كان مثلهما ممن لم تأت النبي عليه الصلاة والسلام للشكوى، والمخاطب بسبب النزول يدخل دخولاً أولياً عند الجمهور، ومالك يرى أن دخول من نزل بسببهم الآية يدخل دخولاً ظنياً، وهذا لا يتضح هنا، ولكن يتضح في آية الأحزاب في قول الله جل وعلا: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33] فهل تدخل في ذلك أمهات المؤمنين أم لا؟ قال في المراقي: واجزم بإدخال ذوات السبب وانقل عن الإمام ظناً تصب فقوله: (واجزم بإدخال ذوات السبب) هو مذهب الجمهور، (وانقل عن الإمام) يقصد مالكاً؛ لأن القائل مالكي (ظناً تصب) أي أن الإمام يرى أن دخولهم ظني في حين أن الجمهور يرون أن دخولهم قطعي.