قال الله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74] بعد أن بين الله لهم هذه الآيات الدالة على وحدانيته وعلى قدرته، وعلى أنه يجب أن يعبد دون سواه، وأن يخضع له بالقول والفعل: أخبر الله جل وعلا أن طول الأمد كان سبباً في قسوة قلوبهم، فعبر الله عن قسوة القلوب بالحجارة ولم يعبر عن قسوة القلوب بالحديد مع أنه قال سبحانه: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد:25]، لكنك تلاحظ أن الله ألان الحديث لداود، ولم يلن الحجارة لأحد إلا لخشيته، فالنار أعاذنا الله وإياكم منها قادرة على الحديد لكنها غير قادرة على الحجر، فالحجر لا يذيبه الحديد فلما أراد الله أن يشبه قسوة قلوب بني إسرائيل جعل مثلاً لها الحجارة، قال: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74].
ثم قال: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ} [البقرة:74] وهذه منافع دنيوية، ثم ذكر مرتبة أعلى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة:74]، وهذا نعي على أصحاب القلوب القاسية، فإذا كانت الحجارة التي هي المثل الأعلى في القساوة يحصل منها أن تهبط من خشية الله فأي نعي لقلب من قلوب بني آدم الذي لا يلين من أجل ذكر الله! والله يقول: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] والقلوب الحقة التي على الفطرة لا تلين بشيء كما تلين بذكر الله جل وعلا تبارك وتعالى.
قال الله: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:74].
نعود إلى الحجارة: الحجارة ذكرت في مسودة التاريخ الإسلامي بطرائق شتى، من أشهرها: الحجر الأسود، قد جاء في الأثر أنه نزل أشد بياضاً من اللبن وسودته خطايا بني آدم، هو حجر أعطاه الله لإبراهيم حتى يجعله في ركن البيت، ومنه يبدأ الطواف.
وجعل حجراً من حجار مكة يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم كما قال في الحديث: (إني لأعلم حجراً بمكة كان يسلم علي بالنبوة).
وجعل النبي صلى الله عليه وسلم في سننه في حجة الوداع أن الحجر يرمى به، وهي الجمار، وهذا يقودك لشيء عظيم نبه عليه بعض الفضلاء: وأظنه الشعرواي رحمه الله قال: هناك حجر يرمى بأمر من الله ويرمى بحجر مثله بحصاة، وهناك حجر يقبل ويستلم ويبدأ منه الطواف وهو الحجر الأسود، فالعبرة في الأحوال الثلاث ليست ذات الحجر، وإنما العبرة أن نعبد ربنا جل وعلا كما شرع، فنحن نشخص بوجوهنا إلى القبلة في أي مكان نصلي فيه، ونحن لا نعبد الكعبة لكننا نعبد رب الكعبة، وهذه الحقائق التنبيه عليها جلي.
وفي بعض الدول يعلمون أبناءهم أن من عجائب الدنيا: الكعبة، ويريدون بذلك أمراً خفياً، فهم يقولون: إن هذه الكعبة من عجائب الدنيا السبع مثل حدائق بابل المعلقة، وأهرامات مصر، ومنارة الإسكندرية، وبرج بيزا المائل وأمثالها، ويقولون: إن الكعبة لأنها من عجائب الدنيا السبع فالعرب تعظمها، فأرادوا أن يلحقوا ما يحصل من الطواف بتعظيم وثني ناجم عن افتتان العرب بهذا البناء الذي لم يتغير على مر الدهور! لكن المسلمين إنما يعبدون رب الكعبة بطوافهم حول الكعبة، فهم يعظمون شعائر الله، وهذا يقودك إلى قول الله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} [الحج:32].
وبعض الناس -هدانا الله وإياهم- يقول: كيف لا يعظم النبي صلى الله عليه وسلم، والله يقول: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [الحج:36]، فيقول في خطابه: ناقة وهي ناقة أمرنا الله أن نعظمها فكيف لا يعظم النبي صلى الله عليه وسلم؟! فنقول جواباً: إننا لا نعترض أبداً على تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم، لكن ينبغي أن يكون هذا التعظيم مصحوباً بالعلم، وشعائر الله كلها تعظم، لكن طرائق تعظيمها تختلف فهي مبنية على الشرع، فمن طرائق تعظيم الهدي نحره، فإراقة دمه وإزهاق روحه هذا نوع من تعظيمه قربة إلى الله، وتعظيم الكعبة بالطواف حولها، وتعظيم الحجر باستلامه وتقبيله، وتعظيم الركن اليماني باستلامه وتقبيله، ويفترق عن الحجر أنه يشار إلى الحجر لكن لا يشار إلى الركن اليماني، وتعظيم القلائد بتقليدها، والهدي أحياناً بإشعاره حتى يظهر فيه علامة تبين أنه هدي.
والمقصود من هذا كله: أن النبي صلى الله عليه وسلم لا ريب أنه من أعظم شعائر الله، لكن يعظم صلى الله عليه وسلم بالطريقة الشرعية التي أمرنا الله بها أن نعظمه، فنحن نحبه ونجله، ولا نرى أن قول أحد من البشر يضاهي قوله، وأنه صلى الله عليه وسلم أحب إلينا بعد الله من كل شيء، أحب إلينا من آبائنا وأمهاتنا، لكننا نعظمه بطرائق شرعية مصطحبة، وهذا معنى قول الله: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19]، والعاقل اللبيب يسير في الأمور دون أن تكون الأمور بين يديه مجتزئة يخلط بعضها ببعض، وهذه هي الفائدة العلمية لقضية جمع الأشياء بعضها إلى بعض، وإلحاق الأشباه بالنظائر حتى يسير الإنسان في طريقه إلى ربه على منهج سليم.
قال الله جل وعلا: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:74] هذا نوع من التهديد والوعيد لبني إسرائيل ولغيرهم.
وما ذكره الله جل وعلا من أخبار بني إسرائيل وإن كنا يخاطب به أبناؤهم الذين عاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن الخطاب للأمة كلها أن تتقي الله ربها، وأن تعرف ما حل بالأمم السابقة فتجتنبه، وما كان سبباً في رفعتها فتأخذ به؛ ولهذا ضرب الله الأمثال، وأخبر الله جل وعلا عن السابقين وأنباء الغابرين حتى تتضح المحجة لكل أحد في طريق سيره إلى الرب تبارك وتعالى.
هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وصل اللهم على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.