قلنا: إن الله جل وعلا تكلم في الآية الأولى عن حد القذف، وتكلم في الآية الثانية عن الملاعنة، وقلنا: إن الملاعنة إنما هي تخصيص عن حد القذف.
وهنا مسألة تتعلق بالقضية، وهي ما لو قذف الوالد ولده، فحق الوالد على الولد عظيم، وفي الحديث: (أنت ومالك لأبيك)، ولما ذكر الله تعالى البيوت في آخر السورة ذكر بيوت الآباء وغيرهم من القرابة، ولم يذكر بيوت الأبناء؛ لأن بيت أبيك حق مشاع بالنسبة لك، فلم يذكره الله جل وعلا، فحق الأب شيء عظيم.
فإذا قذف الوالد ولده فهل للولد أن يطالب بالحد أم ليس له ذلك؟ اختلف العلماء على قولين: فمنهم من قال: إنه يطالب أخذاً بعموم الآيات، ومنهم قال: إنه لا يطالب، أخذاً بالآيات الدالة على وجوب الإحسان إلى الوالدين، ولا شك في أن إقامة حد على والد بسبب ولده يعارض الإحسان.
وإنك لتعجب من بعض الأقوال في هذه المسألة حين تقرؤها، ولكن العجب ينتفي إذا علمت أن الله كتب النقص على عباده.
فقد قال بعض المالكية: إن له أن يطالب بحد القذف، ثم إذا أقيم الحد على الوالد يعتبر الولد عاقاً والعقوق كبيرة، فهل يعقل أن يقول قائل: إن حدود الله إذا نفذت تقود إلى الكبائر؟! هذا محال، فالقول هنا لا يستقيم.
وعليه فإن على الإنسان إذا أراد أن يملي قولاً أو أن يظهر رأياً أو أن يحرر مسألة عليه قبل أن يعرض المسألة على الناس أن يعرضها على نفسه، فيدخل عليها الخوارم، ويحاكم نفسه بنفسه، وينصب العداء لنفسه في هذه المسألة، ويأتيها من كل شق، ويرميها بكل نبل، فإن ثبتت وتحررت وبقيت أخرجها للناس، وذلك خير له من أن ترمى.
والناس يصنعون هذا جبلة من غير أن يشعروا، فقل أن يشتري أحداً دابة، أو يشتري قلماً إلا وقد حرره أو جربه قبل ذلك، وما يقال في الأمور المحسوسة ينبغي أن يقال في الأمور العلمية.